واشنطن تحتاج حلفاءها لمواجهة الصين
حميد الكفائي
لا يخفي الأمريكيون، والغربيون بشكل عام، قلقهم من تنامي قوة الصين الاقتصادية والتقنية، بل يصرحون بذلك علنا، ويسعون جاهدين للحد منه، ولكن ما هي الوسائل المتوفرة لديهم كي يحدوا من التفوق الصيني؟ ولماذا يخشون النمو الاقتصادي الصيني تحديدا، ولم يخشوا القوة الاقتصادية اليابانية مثلا؟ وهل توجد تبريرات أخلاقية واقتصادية لهذا المسعى، الذي يبدو تحاملا غربيا غير مبرر على الصين؟
كانت اليابان إلى عهد قريب القوة الاقتصادية الثانية في العالم بعد الولايات المتحدة، وقد تفوقت الصناعات اليابانية على الصناعات الغربية في مجالات عديدة، وامتلكت اليابان أصولاً وشركاتٍ ومصانعَ في الولايات المتحدة والدول الغربية، لكن الغربيين، رغم محاولاتهم الحثيثة للتنافس معها، وحتى التفوق عليها صناعيا، لم يخشوها، بل عدّوا اليابان دولة غربية صديقة، واعتبروا نموها الاقتصادي وتفوقها العلمي مشروعا وطبيعيا.
وعلى العكس من الموقف من اليابان، يقلق الغربيون كثيرا من التفوق الصيني الاقتصادي والتكنولوجي، وقد جعلوا الحد منه هدفا استراتيجيا لهم، بل وصل التنافس مع الصين إلى حد التصادم العسكري في بحر الصين الجنوبي في العام الماضي.
الخشية الغربية، والأمريكية تحديدا، من الصين يمكن تفهمها، ولها ما يبررها من نواحٍ عدة، أخلاقية واقتصادية وثقافية. فالصين ما تزال قوة معادية للديمقراطية، في الداخل والخارج، والنظام الحاكم فيها يعتمد على الحزب الواحد، وليس فيها أي انتخابات عامة أو محلية، باستثناء انتخابات مختاري القرى التي تشرف عليها الحكومات المحلية، وفروع الحزب الشيوعي الصيني، وتهدف في الأساس إلى تقليص الفساد في الإدارات المحلية، وإبعاد اللوم عن الحزب الشيوعي في الفشل والتقصير في إدارة القرى الصينية، التي يتجاوز عددها المليون قرية.
وفي الوقت نفسه فإن الصين غير ملتزمة بمعايير حقوق الإنسان العالمية، وهناك اضطهاد للناشطين السياسيين والحقوقيين في عموم البلاد، واضطهاد للأقليات الدينية كأقلية اليوغور المسلمة في مقاطعة شينجيان، التي تعاني من شتى صنوف الاضطهاد، خصوصا احتجاز مليون من أعضائها في معسكرات قسرية تحت حجج واهية، كالتدريب وإعادة التأهيل.
وهناك أيضا قيود صارمة على وسائل الإعلام والحريات العامة، واعتقالات عشوائية بحجة الحفاظ على الأمن والنظام، خصوصا في هونكونغ التي عاشت لمئة وخمسين عاما في ظل اقتصاد السوق وحكم ديمقراطي بريطاني.
ولا تتقيد الصين بالعديد من القوانين الدولية المتعلقة بالحريات العامة والتنافس الحر والملكية الفكرية وبراءة الاختراع، وهذه إحدى المشاكل العالقة بينها وبين الدول الغربية عموما، وطالما طُرحت في المفاوضات مع الولايات المتحدة، واعترفت بها الصين ووعدت بإيقافها.
هناك جانب اقتصادي مهم لهذه التجاوزات الصينية المتكررة، فعدم الالتزام بالمعايير والضوابط والقوانين يمنح المنتجات الصينية صفة تفضيلية غير مستَحَقة وغير عادلة على منافساتِها من الدول الاخرى، كما أنه يضمن تفوقها الاقتصادي والتقني على الدول الغربية، وهذا يؤدي بدوره إلى دعم نظامها السياسي المناههض للديمقراطية الغربية، ويضعف القوانين والمواثيق الدولية التي نشأت وتطورت في ظل سيادة الأنظمة الديمقراطية الغربية في العالم.
الغربيون يشهِرون دائما بوجه الصين انتهاكاتها لحقوق الإنسان، وعدم التزامها القوانين الدولية ومعايير التنافس الاقتصادي المشروع، والصين تشهر بوجوههم سلاح حق الشعوب الأخرى في التطور والنمو الاقتصادي، والعيش وفق الأنظمة السياسية التي تلائمها، وأن ليس من حق الغربيين أن يفرضوا عليها الانظمة التي يرتضونها أو تنسجم مع نمط حياتهم.
كلا الطرفين له مبرراته، التي قد تبدو منطقية لأتباع النظامين المتناقضين، لكن المسكوت عنه، أو بالأحرى الخافت وسط الصخب، هو التلازم العضوي بين النظام السياسي الصيني (غير الديمقراطي والمنتهك لحقوق الإنسان وغير المكترث بمعايير التنافس التجاري الدولية) وتقدمها الاقتصادي السريع، بمعنى أن تفوقها الاقتصادي ليس طبيعيا، كما هو في اليابان، بل يحصل على حساب القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، وعبر مخالفة القوانين والأعراف الدولية.
انتهاك الصين لحقوق الإنسان، كحجزها مليون مسلم صيني في معسكرات، وعدم التزامها بمعايير حقوق العمل، من ناحية الاجور وساعات العمل والاستراحة والإجازات، يجعل تكاليف الانتاج منخفضة، مقارنة بالمنتجات الغربية، ما يعني أنها ستكون أكثر تنافسية وانتشارا. لذلك فإن إصرار الغربيين على أن تتوقف الصين عن انتهاك حقوق الإنسان وأن تلتزم معاير التنافس المتفق عليها في منظمة التجارة العالمية والاتفاقيات الثنائية، ومنها حقوق الملكية الفكرية وبراءة الاختراع، من شأنه أن يحد من التفوق الاقتصادي الصيني غير المتكافئ. لذلك يسعى الغربيون بقوة لدفع الصين للالتزام بشروطهم وتبرير فرض التعرفات الجمركية الثقيلة علىى صادراتها.
الغربيون لا يستطيعون التراجع عن الحقوق الديمقراطية والحريات العامة والضمانات الاجتماعية التي حققتها شعوبهم في القرون الثلاثة الأخيرة، من أجل أن يتفوقوا على الصين اقتصاديا، كما أن شعوبهم لن تسمح بأي انتقاص لحقوقها، بل هي تطالب بالمزيد من الحقوق والحريات والضمانات والإجازات والرخاء الاقتصادي. لذلك فإن المتاح أمامهم هو مطالبة الصين والضغط عليها كي تمنح المزيد من الحقوق والحريات لشعبها، خصوصا وأن هذا المطلب مشروع أخلاقيا ومبرر شعبيا، سواءً في الصين أو البلدان الغربية.
وعلى الرغم من أن كثيرين، بمن فيهم الصينيون، انزعجوا من التشدد الذي ابدته إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب مع الصين، خصوصا فرضه تعرفاتٍ جمركيةً عالية على الكثير من الصادرات الصينية، ومنعه الشركات الصينية من امتلاك الأصول في الولايات المتحدة، دون امتلاك الأمريكيين لحصة النصف فيها، ومنع الشركات الأمريكية من إيصال التكنولوجيا الأمريكية إلى الصين، إلا أن سياسة ترامب في تفتيت التحالف الغربي قد خدمت الصين كثيرا. لم يعد حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا وآسيا يثقون بها كثيرا، لأنها تبنت سياساتٍ انعزاليةً ومناهِضةً لهم ومضرةً بمصالحهم، ما مكَّن الصين من تحسين علاقاتها معهم، ودفعهم إلى التصرف مع الولايات المتحدة باعتبارها خصما منافسا لهم، خصوصا وأنها تصرفت معهم في عهد ترامب على هذا الأساس.
المعضلة التي يواجهها الرئيس جو بايدن الآن هي إعادة توحيد التحالف الغربي الذي شتته ترامب خلال أربع سنوات من حكمه، كي يتخذ موقفا موحدا من خصوم الدول الغربية الرئيسيين، وهم تحديدا الصين وروسيا والدول الأخرى السائرة في فلكيهما، أو المتحالفة معهما كإيران وكوريا الشمالية، لأن الموقف الأمريكي وحده لن يكون مجديا، خصوصا وأن الأوروبيين أخذوا يفكرون بمصالحهم بمعزل عن السياسة الأمريكية المتقلبة، وقد سلكوا طريقا منفصلا عن الولايات المتحدة، حتى في ظل رئاسة بايدن الودية معهم، لأن احتمال مجيء إدارة انعزالية أخرى، كإدارة ترامب، سيعني أنهم سيضطرون إلى البدء من الصفر مرة أخرى، وهم قد تجاوزوا هذه المرحلة، ولن يعودوا إلى الوراء، خصوصا مع غياب الضمانات.
لم تكن إدارة ترامب الوحيدة في التأريخ الأمريكي الحديث التي فضلت مصالح الولايات المتحدة على مصالح حلفائها، فإدارة الرئيس الأسبق، رونالد ريغان، هي الأخرى سلكت سلوكا مشابها، وليس مماثلا، لما سلكته إدارة ترامب. وقد كتب أنتوني بلِنكِن، وزير الخارجية الأمريكي الحالي، كتابا عام 1987، يعالج فيه مشكلة الخلاف بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين بعنوان (حليفٌ يناهض حليفاً) أو (Ally Versus Ally) وناقش فيه محاولات الأوروبيين الاعتماد على واردات الغاز الروسية التي كانت الولايات المتحدة، وما تزال، تعارضها لأنها تمنح روسيا نفوذا في أوروبا، وتبعد الأوروبيين عن التحالف مع الولايات المتحدة، وتساهم في تقوية روسيا عسكريا واقتصاديا على حسابها.
وقد تنبأ بلِنكِن في كتابه المذكور، الذي نصح أساتذة العلوم السياسية والاقتصاد الأوروبيون حينها طلابهم بقراءته، بأن سياسة الولايات المتحدة التي تهمل مصالح حلفائها الأوروبيين، ستقود إلى تهشم العلاقة الاستراتيجية القائمة بين الحلفاء، وهذا من شأنه أن يضعف موقع الولايات المتحدة العالمي استراتيجيا.
الزعامة الصينية تحذر الإدارة الأمريكية من “عبور الخطوط الحمراء” مع الصين، لكن الولايات المتحدة لم تستجِب، ولن تستجيبَ لمثل هذا التحذير، وقد أكد مسؤولون أمريكيون أن على الصين أن تتحرر من أوهامها، بأن الولايات المتحدة سوف تتخلى عن معارضتها للتمييز الذي تمارسه ضد السكان المسلمين (اليوغور)، أو عن تأييدها للمطالبين بالحقوق الديمقراطية في هونكونغ، أو عن دعمها لاستقلال تايوان، بالإضافة إلى قضايا أخرى مثل البيئة والاختراقات السبرانية الصينية للأنظمة والمواقع الأمريكية.
وقال أحد أعضاء الوفد الأمريكي المفاوض إن هناك انطباعا لدى الصين بوجود تناقض بين خطاب الولايات المتحدة العلني وتعاملها الفعلي، “ونريد أن نبرهن للصينيين بأن مثل هذه الازدواجية المُتخَيَّلة هي مجرد وهم”. وأكد المسؤول الأمريكي أن سجل الصين فيما يتعلق بالإيفاء بوعودها ليس جيدا، لذلك فإننا سوف ننظر إلى الأفعال وليس الأقوال.
ومن أجل أن تضمن الولايات المتحدة مساندة حلفائها الغربيين في صراعها مع الصين، بدأت تتخذ مواقف مساندة لقضاياهم. وقد حذر كيرت كامبل، المسؤول عن الشؤون الآسيوية في البيت الأبيض، الصين من تهديدها لأستراليا بعد مطالبتها بإجراء تحقيق دولي مستقل حول منشأ فيروس كوفيد 19، تلك المطالبة أغضبت الصين كثيرا ودفعتها إلى ممارسة ضغوط سياسية واقتصادية على أستراليا.
وكان جوناثان وورد، مؤلف كتاب “رؤية الصين حول النصر”، قد نصح وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي الأمريكييْن، قبل لقائهما مع المسؤولين الصينيين في ألاسكا الأسبوع الماضي، بأن عليهما أن يبلغا الحكومة الصينية بأن واشنطن لا تسعى إلى إبرام “صفقة كبرى” أو إلى بناء “نموذج جديد للعلاقات بين الدول العظمى”، بل عليهما أن يبلغاها بأن “خُدَع الحزب الشيوعي الصيني لن تنطلي على أحد مستقبلا”.
وكان اللقاء بين الطرفين صريحا فعلا، إذ تبادلا فيه الاتهامات المعتادة. الجانب الأمريكي حذر الصين من العمل خارج قواعد اللعبة، فهذا الأمر “سيفسح المجال لاستخدام القوة وعندها سيسود مبدأ (القوي على حق) ويجعل العنف يسود العالم”، وطالب الصين بعدم التدخل في تايوان واحترامِ حقوق الإنسان في شينجيان وهونكونغ، وقال إن هذا الأمر “ليس شأنا داخليا صينيا، بل يهدد النظام العالمي الذي يعتمد على اتباع الجميع للقواعد والمواثيق الدولية”، بينما حذرت الصين الولايات المتحدة من التدخل في شؤون الصين الداخلية، وقالت إنها حققت تقدما ملموسا في مجال حقوق الإنسان “وإن انتهاكات حقوق الإنسان موجودة في الولايات المتحدة أيضا”.
ستحتاج الولايات المتحدة إلى مساندة حلفائها الغربيين والشرقيين كي تتفوق في صراعها مع الصين، تماما كما فعلت في صراعها مع الاتحاد السوفيتي السابق، ولكن، هل ستتمكن إدارة بايدن من إعادة التحالف الغربي إلى سابق عهده، بعد التصدعات الكبيرة التي لحقت به خلال عهد ترامب، والتي كان وزير الخارجية أنتوني بلِنكِن قد تنبأ بها عام 1987؟ وكيف يمكنها أن تفعل ذلك إن بقيت تركز على مصالحها فقط، دون مصالح حلفائها؟