للتخلف ألف وجه ووجه. ومن هذه الوجوه الإحساس بالنقص، وانعدام الثقة بالنفس، والشعور الدائم بالاضطهاد والخوف، حتي عندما لا توجد أسباب موضوعية لهذه الأحاسيس والمشاعر. ومناسبة استدعاء هذه الملاحظة هي المخاوف التي عبّرت عنها بعض القيادات الدينية والسياسية، المصرية والعربية في الآونة الأخيرة، حيال المسلمين الشيعة.
فمنذ ثلاث سنوات والملك عبد الله الثاني عاهل الأردن، يحذر العرب المسلمين السُنة، مما سماه هو بالمثلث الشيعي أو الهلال الشيعي . ويقصد به التكوينات البشرية المسلمة الشيعية، التي تمتد من إيران، عبر جنوب العراق، البحرين، وشرق السعودية، وشمال سوريا، إلي سهل البقاع والجنوب اللبناني. ثم انضم الرئيس المصري حسني مبارك إلي الملك الأردني، لينبه من عام، أي في ربيع 2006، إلي أن ولاء المسلمين الشيعة العرب ليس لبلدانهم العربية التي يعيشون فيها ويحملون جنسيتها، ولكن لإيران!.
وقد تصادف وجودي في منطقة الخليج، التي يعيش فيها هؤلاء الشيعة العرب الذين اتهمهم الرئيس المصري بعدم الولاء لبلدانهم، والذين عبّروا عن صدمتهم واستيائهم لتصريحات الرئيس مبارك. وقال بعضهم في مؤتمر كُنت أشارك فيه وقتها، إن أحداً لم يأخذ تصريحات الملك الأردني مأخذ الجد. ولكن أن تصدر مثلها، بل وأقسي منها من رئيس أكبر دولة في المنطقة، وهي مصر، فهو أمر خطير. واعتذرت لمن عبّروا عن استيائهم وقتها. وبمجرد عودتي إلي مصر، كتبت مقالي الأسبوعي، في الدستور (29/4/2006) والذي ينشر في عدة بلدان خليجية بعنوان اعتذار للشيعة العرب، عن سقطة رئيس مصر ، والذي فنّدت فيه مزاعم الرئيس المصري. فلم يحدث أن ثبت في أي صراع بين أي بلد عربي وإيران، أن شيعياً عربياً خان بلده لحساب إيران. كما لم يثبت أبداً أن سُنياً إيرانياً خان بلده لحساب بلد عربي. وحقيقة الأمر أن ولاء المواطنين العرب لدولهم الحديثة هو أعمق بكثير من الولاء لأي عقائد دينية أو دنيوية.
ومع ذلك تظل المخاوف من الشيعة تتردد بين سياسيين عرب، لهم حسابات مع إيران، أو مع حزب الله اللبناني، ذو القاعدة الشيعية. والجديد في التعبير عن المخاوف من الشيعة، عبّرت عنه مؤخراً بعض القيادات الإسلامية مثل الدكتور يوسف القرضاوي، المصري الذي يعيش في دولة قطر، ومثل الأستاذ فهمي هويدي، الكاتب الصحفي بالأهرام، والدكتور محمد سليم العوا، المحامي المصري المعروف. وكان ثلاثتهم قد شاركوا في مؤتمر للتقريب بين المذاهب الإسلامية، عُقد في الدوحة، منذ عدة أسابيع. وفي هذا المؤتمر أشار ثلاثتهم بأن التبشير الشيعي أو التشيع في بلاد ذات أغلبية سُنية هو أمر خطير، ويهدد محاولات التقريب والتفاهم بين المذاهب . بل وتوجه اثنان منهم، بعد المؤتمر، إلي طهران لتحذير آيات الله الشيعة من محاولات هذا التبشير في بلدهم مصر!.
والغريب في هذا هو أن المفكرين الإسلاميين الثلاثة المذكورين (القرضاوي والعوا وهويدي) هم أول من يعلمون أو ينبغي أن يعلموا أن المعتقدات الإيمانية تستقر في الضمائر والقلوب قبل أن تنفذ إلي العقول أو تظهر في السلوك. وبالتالي لا يتم التفاوض بشأنها وكأنها مساومات سياسية، ولا التحذير منها كأنها مواد تخديرية. إن المعتقدات الشيعية قديمة راسخة، منذ منتصف القرن الهجري الأول، أي قبل 1400 سنة. وهي تتمحور حول محبة آل بيت محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم ، والاعتقاد أنهم كانوا وما يزالوا الأحق بخلافة الرسول في حكم المسلمين، لأنهم الأكثر تقوي، وطهراً، وصفاءً، وإلهاماً. وبصرف النظر عما إذا كانت هذه الصفات الحميدة تنتقل بالوراثة من عدمه، فإن المعتقدات الإيمانية لا تتطلب إثباتاً أو برهاناً من أصحابها.
وأحد الطرائف العربية في التحذير من الخطر الشيعي و المثلث الشيعي و الهلال الشيعي هو الملك عبد الله الثاني بن الحسين، بن طلال بن عبد الله، بن الحسين، الهاشمي شريف مكة. وهو شأنه شأن بقية سلالته الهاشمية يؤسسون شرعيتهم في حكم مكة والحجاز، ثم سورية والعراق، وأخيراً الأردن، ارتكازاً علي أنهم من آل البيت . بل وتحتضن العاصمة الأردنية عمان مؤسسة تحمل هذا الاسم، ويرأسها حالياً، الأمير الحسن بن طلال، عم الملك عبد الله الثاني. أي أن الهاشميين الذين يؤسسون شرعيتهم علي نسبهم لآل البيت، هم آخر من يحق لهم التحذير من الشيعة الذين تقوم دعوتهم تاريخياً علي التشيع لآل البيت ، أي الانحياز لسلالة الرسول الكريم. لقد أتي هؤلاء الهاشميون من مكة، وحكموا في بلاد مثل سورية والعراق والأردن، ولم يكونوا أصلاً من مواطنيها، لا لشيء إلا لأنهم من آل البيت. واعتمدوا هم والبريطانيون الذين دعموهم في القرن الماضي، علي هذه الشرعية المستمدة من مصادر روحية نبوية.
وكما هو شأن كل المعتقدات الإيمانية الروحية في أي دين من الهندوكية إلي اليهودية إلي المسيحية والإسلام فإنها تتحول بمرور الزمن والأجيال إلي مذاهب، تلتف حول كل مذهب منها طائفة. ولتأكيد الوجود والتميز فإن هذه المذاهب والطوائف تنشأ مدارسها أو معاهدها الفقهية، لتأصيل معتقداتها وأفكارها وممارساتها وطقوسها. وينشأ مع هذا كله رجال دين ، أو فئة تسهر علي كل هذه الأمور، وتكسب منها معنوياً واجتماعياً وسياسياً، وربما مادياً. من ذلك أنه إلي جانب الهاشميين من آل البيت، هناك السادة الذين يحرسون المقدسات الشيعية، وهناك المجتهدون ، و المرجعيات (آيات الله) الذين يدرسون ويتفقهون ويقومون بمهام التدريس والخطابة والهداية والفتوي في شئون الدين. بل وقد تم تأصيل منظور الشيعة إلي الشريعة الإسلامية من خلال مذهب خاص مستقل بهم، وهو المذهب الجعفري مثلما لدينا نحن المسلمون السُنة مذاهبنا الأربعة (الحنبلي، والمالكي، والحنفي، والشافعي). كذلك فعل أهل الشيعة باستحداث أماكن لطقوسهم الخاصة باستذكار محنة الحسين بن علي ، وفاطمة الزهراء، حفيد الرسول. وكان الحسين قد قُتل، ومُثل بجثته، في موقعة كربلاء، بعد أن تخلي عنه معظم أنصاره، وفروا من أرض المعركة، تاركينه وحده وقلة من أقربائه، يواجهون جيوش يزيد بن معاوية، التي فتكت بهم جميعاً. وهذه الأماكن أشبه بالمقارئ أو دور المناسبات عند أهل السُنة. ويسميها أهل الشيعة بالحسينية ، نسبة إلي الحسين، رضي الله عنه. وفي هذه الحسينيات يتم استدعاء ذكري كربلاء، بطريقة طقوسية مؤثرة، تُبكي السامعين.
المهم لموضوعنا هو أن الشيعة لا تتعدي نسبتهم في العالم اليوم أكثر من 15% من مسلمي العالم (حوالي 150 مليونا من مجموع 1500 مليون). ومع ذلك يتصرف المسلمون السُنة حيالهم بخوف وهلع من أخطار انتشار مذهبهم. ومن مظاهر هذا الهلع ما أشرنا إليه في صدر هذا المقال من تصريحات الملك عبد الله الأردني والرئيس حسني مبارك المصري، وثلاثة من المحسوبين مفكرين كبار بين أهل السنة (القرضاوي والعوا وهويدي). بل من آيات هذا الهلع في مصر، والتي كانت شيعية لعدة قرون في العصر الفاطمي، وكان الأزهر الشريف هو مسجدهم وجامعتهم، إن السلطات المصرية تناصب القلة القليلة من المصريين الشيعة، العداء. فهي تطاردهم وتضيق الخناق عليهم، كما تفعل مع الطائفة البهائية ومع بعض الطوائف المسيحية. لقد تضاعف عدد المسلمين الشيعة في مصر في السنوات الثلاث الأخيرة. لا بسبب التبشير الشيعي ، ولكن بسبب اللاجئين العراقيين، الذين تزايدت أعدادهم مع استمرار العنف والترويع والقتال في بلادهم، بعد الغزو الأمريكي، في 19 مارس 2003، أي منذ أربع سنوات. إن عدد هؤلاء اللاجئين الآن يتجاوز المائة ألف. ويقيم معظمهم في المدن الجديدة مثل 6 أكتوبر. وهم لا يمثلون عبئاً علي الدولة أو المجتمع في مصر. فمعظمهم من الميسورين المتعلمين، ولا يتلقون أي إعانات رسمية أو أهلية. وقد استقبلت سوريا والأردن ولبنان وتركيا وبلدان الخليج وإيران أعداداً أكبر ممن استقبلتهم مصر. ولكن لأن هذه البلاد جميعاً يوجد بها شيعة من سكانها الأصليين، ولهم دور عباداتهم وطقوسهم من مساجد وحسينيات، فإن اللاجئين من شيعة العراق يمارسون فيها شعائرهم. أما في مصر، فلا توجد مثل هذه المرافق الخدمية الشيعية. وقد نقلت صحيفة الحياة اللندنية (11/2/2007) خبراً مفاده أن السلطات المصرية رفضت التصريح ببناء مسجد أو حسينية شيعية في مدينة 6 أكتوبر لخدمة أكثر من ثلاثين ألف عراقي شيعي يقيمون بها وفي مدينة الشيخ زايد القريبة منها. فيا تري لماذا هذا الرفض؟ لماذا يتصرف كبار المسئولين المصريين من رئيسهم إلي قياداتهم الدينية السُنية بهذا القدر من الخوف والهلع؟ إن الإسلام والمذهب السُني هو دين الأغلبية ومذهبهم في مصر المحروسة، ولم يمسسهما ضرر طيلة ألف عام. ولن يمسهما سوء خلال الألف عام القادمة؟ إن هؤلاء المسئولين يتصرفون كأقلية تشعر بالنقص والدونية. فعار عليهم إلي يوم الدين.