عرفناك هُماما لا تعرف الهدوء، وصمتُك سيبقى مدويا
تعرفت على الصديق كمال البصري عام 1987 في أحد النشاطات العراقية في مدينة غلاسغو الأسكتلندية، وكان حينها قد أكمل على التو دراسة الدكتوراه في جامعة ستراثكلايد المرموقة. كان ودودا ومنفتحا ومتفائلا ومنبسط النفس، مهتما بالآخرين ومستمعا جيدا لهم. تحدثنا وقوفا لبرهة ثم افترقنا.
التقيت به مرات عديدة في نشاطات أخرى، وكلما التقينا ازدادت صداقتنا وثاقة. انتقل كمال من غلاسغو إلى مانجستر ثم إلى مدينة غيلفورد، غير البعيدة من لندن، التي استقر فيها لعدة سنوات أثناء عمله أستاذا في جامعة سَري، وقد دعاني إلى لقاءات متعددة في بيته في غيلفورد، كما فعلت الشيء نفسه معه ودعوته إلى معظم اللقاءات التي نظمتها في بيتي أو في قاعات عامة.
في عام 1992 أسستُ مع آخرين مجلة ثقافية فصلية وكنت رئيسا لتحريرها. بعث لي كمال بحثا اقتصاديا كي أنشره في المجلة. وقد وقعه باسمه الكامل (كمال فردريك فيلد)، وفردريك فيلد هو اسم والده البريطاني (من مقاطعة ويلز)، الذي عمل مهندسا في حقول النفط في البصرة وتزوج من سيدة عراقية أنجب منها ولدان، هما كمال ومحمد علي، وبقي في العراق حتى رحيله أواخر السبعينيات، ودفن في البصرة.
اتصلت بكمال تلفونيا وقلت له سوف ننشر البحث في العدد المقبل ولكن سوف أجري عليه بعض التصحيحات البسيطة التي أتمنى أن توافق عليها. فقال أنت رئيس التحرير ولن اعترض على تصحيحاتك. فقلت له ولكن التعديلات سوف تشمل اسمك! قال كيف؟ هل ستغير اسمي؟ قلت نعم، ولكن ليس كليا.
“أنت من أهالي البصرة، يا كمال، واسمك يوحي لكثيرين بأنك أجنبي، بينما أنت متميز في ارتباطك بالعراق وحبك له والتصاقك بثقافته، لذلك سأسميك كمال البصري”! وبعد فترة تأمل قصيرة قال لك ما تريد. نُشر المقال باسمه الجديد، ومنذ ذلك اليوم من عام 1993، تبنى كمال لقبه الجديد (البصري) اعتزازا منه بمدينته البصرة وتمسكا بهويته العراقية. سعدت كثيرا أن كمال لم يتبرم لتغيير اسمه، بل تمسك به وتبناه كليا حتى آخر يوم في حياته.
توثقت علاقتنا كثيرا على مر السنين وتعرفت على أفراد عائلته جميعا، خصوصا والدته البصرية الرائعة التي رثيتها بكلمة في مجلس العزاء الذي أقيم عند رحيلها أواسط التسعينيات، وتعرفت كذلك على زوجته هناء الجنابي، ونجليه مصطفى ومروان وابنته زينب.
كنا نتعاون دائما في المجالات التي نعمل فيها، خصوصا وأن كلانا قد اهتم وتخصص في الاقتصاد، وكان كمال يواظب على قراءة مقالاتي وتقاريري في هذا المجال في جريدة الحياة ومجلة العالم، وكانت حينذاك مقتصرة على الاقتصاد، وكنت أحضر معظم نشاطاته ومحاضراته ولقاءاته.
شكَّل كمال مع زوجته هناء، التي سبقته إلى العالم الآخر بست سنوات، فريقا فاعلا ونشيطا لا يكل عن العمل وتقديم الخدمات للعراقيين في بريطانيا، وقد أسسا (برلمان الجالية العراقية) الذي كان فكرة ديمقراطية مبتكرة لتمثيل العراقيين وتقديم الخدمات لهم في كل المجالات، بينما أسست زوجته جمعيات خيرية ونظمت تجمعات نسوية وعملت بنشاط حتى آخر أيامها في جمعية خيرية لتقديم الخدمات الإدارية والاستشارية لمحتاجيها.
بعد عام 2003، عدنا إلى العراق، وعملنا في الدولة الجديدة، كمال في وزارة التجارة وأنا في مجلس الحكم، وكنا متفائلين بأننا سنتمكن من المشاركة في بناء دولة عصرية جديدة تليق بالعراق وإرثه الحضاري، وتنقله إلى مصاف الدول المتقدمة، ولكن هذه قصة مؤلمة أخرى سأسردها في كتاب مستقبلا.
عندما قدمت استقالتي من عملي في الدولة عام 2006 بسبب المضايقات اللئيمة والغادرة التي تعرضت لها، وعدت إلى لندن، كان كمال البصري أول من سأل عني وطالبني بالعودة إلى العراق. وذات يوم، اتصل بي وقال بودي أن أزورك اليوم إن توفر لديك الوقت، فرحبت بزيارته، وفعلا جاء بصحبة الصديق الدكتور أمير المختار، الذي كان حينها مديرا عاما لمدينة الطب، ونقل لي رسالة شفوية من أحد المسؤولين الكبار، مفادها أنه ليس صحيحا أن أغادر العراق، وأنه مستعد لتعييني في أي وظيفة أختارها! شكرت الدكتور كمال على نقله الرسالة وأبلغته بأنني لا أبحث عن وظيفة بقدر ما أبحث عن مجال للخدمة، “ومازال المسؤولون الحاليون يمنعوننا من تقديم الخدمة، فإن الأفضل أن أجد وظيفة في الخارج وهذا ليس صعبا عليَّ كما تعلم”. رد كمال “قلت له إن حميد لن يوافق، لكنه أصر على أن أبلغك هذه الرسالة”. وفعلا، فقد حصلت بعد ذلك اللقاء بعدة أشهر على وظيفة مهمة في الولايات المتحدة وبعدها انتقلت إلى وظيفة أخرى مماثلة في الأمم المتحدة.
تواصلنا طوال تلك السنين التي كان فيها يعمل وكيلا لوزارة المالية ثم مستشارا في رئاسة الوزراء، وبعد انتقاله إلى لندن لرعاية زوجته المريضة، وكذلك عندما عاد مرة أخرى إلى وزارة المالية في السنوات الأخيرة، وكان دائما يطلب مني أن أكتب مقترحاتٍ وأفكارا كي يقدمها للمسؤولين، وكنت أقول له يا أبا مصطفى، “الجماعة لا يكترثون لأي مقترح أو فكرة، فهم مشغولون في خدمة أنفسهم فحسب، فأرجوك أن تنسى الموضوع”.
اتصل بي كمال تلفونيا مطلع هذا العام وكانت نبرة صوته هادئة وقد انتابها الضعف، فصوت كمال المعتاد يتميز بالقوة والتفاؤل. عاتبني أنني لم أسأل عنه أثناء مرضه! فوجئت بمرضه وقد أخبرته بأنني لا أعلم به، وتمنيت له الشفاء وقد طمأنني بأنه يتلقى العلاج وأن صحته في تحسن وكان متفائلا بالشفاء كليا من المرض. طلبت منه أن يهتم بصحته ويقلص من نشاطاته، كما فعلت مرارا من قبل، خصوصا بعد أن أصيب بأزمة قلبية في أواخر التسعينيات أثناء إلقائه محاضرة في جامعة في أيرلندا. فرد قائلا: “أنت تعلم بأنني لن أتوقف عن العمل، وعندما أتوقف أموت، فالعمل هو الحياة بالنسبة لي، وسوف أكمل علاجي وأعود إلى العراق في أقرب فرصة”.
آخر رسالة شخصية تسلمتها منه كانت في 27 حزيران، قبل رحيله بخمسين يوما، وكانت مقتضبة جدا يشيد فيها بأحد مقالاتي وقد أجبت عليها بتوقيعي المعتاد (دُم سالما وسعيدا). الرسالة التي قبلها، (مرافقة لهذا المقال)، كانت أكثر تفصيلا وكانت بتأريخ 9 أيار 2021 يتحدث فيها عن موضوع طرحته في برنامج تلفزيوني.
لم تكن علاقتي بكمال سلسة ورتيبة دائما، فطالما اختلفنا في الرأي في كثير من الأمور، ولكننا كنا دائما نرتقي فوق الخلافات، وكان دائما يبادر إلى الاتصال بي، وهذه من شيمه وأخلاقه الرفيعة التي يعرفها أصدقاؤه جميعا. أتذكر أنه دعاني إلى لقاء في مجمع ويستفيلد غربي لندن، وفعلا التقينا وكان معه شقيقه محمد علي، وكان ذلك في عام 2016، بعد رحيل زوجته بعام. سألته إن كان يفكر بالزواج؟ فوجئ بسؤالي الذي نزل عليه كالصاعقة: “أنا أتزوج امرأة أخرى بعد هناء؟ ما هذا الكلام يا حميد”؟ قلت له “وما المشكلة يا صديقي، فهناء رحلت وليس صحيحا أن تقضي حياتك وحيدا وأنت في منتصف العمر؟” فرد بقوة: “أرجوك أغلق الموضوع ولا تتحدث به قط”. ذُهلت حقا لهذا الوفاء النادر، لكنه ليس غريبا على كمال.
رحل كمال البصري ومازال في الستينيات من عمره، وقد خسرتُ برحيله صديقا وأخا عزيزا، وخسر العراقيون رجلا هُماما ومقداما، لم يهدأ عن الخدمة ولم ينقطع عن العمل طوال حياته. ربّى عائلة مرموقة، فابنه البكر مصطفى هو من أكثر العراقيين نجاحا في بريطانيا، وأقلهم صخبا. وقد حصل على وسام من ملكة بريطانيا ولقب شرفي لخدماته الجليلة في الجمعيات الخيرية البريطانية. وأسس مركزا مهما للأبحاث والمتابعة باسم (Integrity)، والذي يعمل فيه عدد من الشبان العراقيين ويُعنى بشؤون العراق والشرق الأوسط. وكان المركز قد دعاني إلى المشاركة في ندوة عن الإرهاب في العراق وكان ذلك في عام 2016 (الدعوة مرافقة للمقال)، وقد لبيت الدعوة وشاركت في تلك الندوة مع مشاركين آخرين، بينهم الشخصية الكردية والوزير السابق لطيف رشيد. أما نجله الآخر، مروان، فهو رجل أعمال ناجح، ومهتم بالعراق وطالما التقيته في المطارات ذاهبا أو عائدا من العراق.
عاش كمال سعيدا ومتفائلا، لكنه أجهد نفسه في العمل، فنشاطاته الاجتماعية والمهنية والفكرية لا تتوقف، وتلك النشاطات أتعبته وتركت أثرها على صحته، وهذا ما كنا نحذره منه طوال 35 عاما عرفته فيها. لم يكتفِ بوظيفته الحكومية وتخصصه الأكاديمي واهتماماته الاجتماعية، بل أسس إلى جانب ذلك معهدا للإصلاح الاقتصادي في بغداد، والذي مازال قائما يقدم الأبحاث وينظم الندوات والمحاضرات ويصدر الكتب والمنشورات.
مات كمال جسدا، لكن صنائعه ستبقى تقدم العطاء لسنين طويلة مقبلة، وسيبقى العراقيون يتذكرونه بحب واحترام إلى زمن بعيد.
حميد الكفائي
17 آب 2021
الصورة أعلاه التقطت أثناء لقاء في بيتي في تموز من عام 2000 وفيها من يمين الناظر:
الصف الامامي: الجراح الاستشاري د. صلاح عطرة، عالم الاجتماع العراقي د. إبراهيم الحيدري، الفنان المصري علي الرفاعي، والمفكر والكاتب الفلسطيني الراحل ناصر الدين النشاشيبي
الصف الخلفي: د. كمال البصري، حميد الكفائي والصحفي الفلسطيني د. عدلي هواري
رسالة كمال الأخيرة
دعوة مركز إنتغريتي الذي أسسه مصطفى كمال فيلد
https://www.alkifaey.net/6182.html
https://www.alkifaey.net/10407.html