عندما تستهوي السياسة كل أفراد الشعب!
سكاي نيوز عربية: 12 شباط 2022
في الدول المبتلاة بالثقافة الثورية والطبقات السياسية الطارئة، يصبح كل أفراد الشعب سياسيين، صغارا وكبارا، متعلمين وبسطاء.
ولا يهم إن كان المرء يجهل أساسيات علم السياسة، فبإمكانه أن يكون سياسيا (محنكا)، بمجرد حفظ بعض الجمل القصيرة، التي تجعل منه ذلك السياسي المرموق الذي يُشار إليه بالبنان!
وهذه الجمل والعبارات سائدة ومنتشرة، أينما يولي المرء وجهه، إذ يمكنه العثور عليها في الجرائد والمجلات، وإن كان أميا، وهذا شأن ملايين الناس في العالم العربي، فيمكنه أن يستمع إليها في الإذاعات وقنوات التلفزة، وهي مريحة وسهلة الحفظ، مثل (إنها مؤامرة أمريكية على الشعوب العربية) و(إنه مخطط تقف وراءه الصهيونية العالمية) و(هذه خطة مرسومة سلفا) و(أن الصهيونية العالمية لن تدعنا نتقدم) وهكذا دواليك!!
ومما فاقم الولع والهوس بالشؤون السياسية في العقود الأخيرة، هو انتشار وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، التي تحتاج إلى معلقين ومشاركين وكتاب باستمرار، وهذه الحالة شجعت كثيرين على (التصدي) للشأن السياسي، ولِمَ لا، إن كان بإمكان المرء أن يردد الكليشيهات المألوفة، ويفسر الأحداث على هواه، ووفق ما ألفه من سيناريوهات وأفكار؟ فهناك دائما “مؤامرة صهيونية على الأمة العربية، تدعمها الإمبريالية العالمية التي لا تريد لشعوبنا الخير”!
بل والأكثر من ذلك هو أن هناك من يردد أن الدول العالمية المتخاصمة، هي في الحقيقة متفقة في السر، لكنها تتظاهر بالاختلاف كجزء من (مؤامرة كبرى) على الأمة العربية! ولا أدري ما الذي يدفع الصين والولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا والهند وأستراليا والبرازيل، لأن تتفق سرا وتتحارب علنا؟ هل هو الخوف من الدول الأضعف منها مثلا؟
ووسط كل هذا الهرج والمرج تختلط الأوراق وتضيع الحقائق على البسطاء والشطّار على حد سواء! أحد الأصدقاء المثقفين والمتعلمين يرسل إليَّ يوميا كما هائلا من الاخبار الملفقة والكاذبة ويطلب مني أن أخبره أيها صحيح وأيها كاذب! وقد صارحته ذات يوم، بعد أن طفح الكيل وبلغ السيل الزُبى، “لماذا لا تفعِّل عقلك يا أخي، أو تبحث عن الحقائق بنفسك؟ فمعرفة الحقيقة لم تعد صعبة هذه الأيام. فإن كرستُ وقتي لقراءة عشرين قصة يوميا وتحليلها من أجل أن أقنعك بصحة هذه وخطأ تلك، فلن يبقى لي وقت لعمل أي شيء آخر”!
منيرة ميرزا الملقبة بـ(عقل بوريس): تستقيل احتجاجا على توجيه رئيس الوزراء اتهاما كاذبا لزعيم المعارضة
ونظرية المؤامرة هذه لا تقتصر على السياسة والاقتصاد والتسلح فحسب، بل تتعداها إلى كل شيء آخر في الحياة. هناك مثلا من يعتقد بأن فيروس كورونا مؤامرة وكذبة كبرى، هدفها خداع الشعوب وتحقيق النفع المادي لشركات صناعة الأدوية، مثلما يدعي أحد أصدقائي الأطباء، ولا أدري كيف يُسمح لأمثاله العمل في الطب، فالرجل يجتهد ويبحث يوميا عن كل خبر ملفق، ورأي غريب يتعلق بفيروس كورونا، كي يبعثه لي ولغيري، بهدف إقناعنا بأن القضية كلها (مؤامرة) عالمية تشترك فيها كل دول العالم ضد شعوب الأرض أجمعها!
في العراق هناك فريق متخصص في اختلاق الأكاذيب والافتراءات، وأعضاؤه ينتشرون في وسائل الإعلام والتواصل كي يخلقوا أخبارا كاذبة لإيهام الناس وتضليلهم لصالح جهات معينة، ترى أن في مصلحتها إثارة اللغط والجدل بين الناس وجعلهم ينشغلون بالسفاسف وتوافه الأمور، بدلا من الالتفات إلى القضايا المهمة كتحسين ظروف حياتهم.
بل هناك قنوات متخصصة في نشر الأكاذيب وبث الشكوك بين متلقيها، وتشويه سمعة الشخصيات السياسية والثقافية، العراقية والعالمية، وليس هناك من وازع أو رادع يمنعها من ارتكاب هذه الأفعال، على الرغم من وجود هيئة متخصصة تراقب أداء وسائل الإعلام، ويفترض أن تتدخل عندما ترى انتهاكات واضحة للقانون، وإخلالا بالمصالح العامة.
ولا يمر أسبوع أو شهر دون تنتشر قوائم بأسماء أشخاص مع حجم الأموال التي بحوزتهم، أو عدد الأملاك التي وجدت بأسمائهم، بل وأسماء البنوك المسجلة بأسماء بعضهم، أو أن زوجة فلان مسكتها الشرطة في البلد الفلاني وفي حوزتها مليار دولار نقدا! أما كيف حملتها وأي بنك قدم لها هذا المبلغ نقدا، فليس مهما لأن هناك من يصدق الخبر على علاته. أو أن فلانا اشترى نادي فولهام أو داربي أو إيستهام أو برشلونة، أو أن علّانا اشترى إحدى جزر الهونولولو! ومثل هذه الأخبار يصدقها البسطاء، ومن يريد أن يصدقها من غير البسطاء، حتى أن أحد مشاهير الإعلاميين أخبرني ذات يوم أنه شخصيا تأكد من كذا وكذا، بينما القضية التي تحدث عنها كانت مختلقة من أساسها!
هناك الآن من يكتب (مقالات) باسمه الصريح، ويضع صورته إلى جانب المقال، ويدعي أو يفتري فيه ما يشاء دون وازع من ضمير، أو رادع من قانون. وبينما يجتهد الباحثون المتمرسون والكتاب المهنيون في طلب المعلومة وتوثيقها، ويمضون أياما في تأليف مقال أو بحث، يستند إلى حقائق وأرقام ومصادر، يكتب هؤلاء المغرضون ما يشاؤون خلال لحظات وينشرونه في الواتساب أو الفيسبوك أو توِتر، لينتشر بين البسطاء الذين يتلقونه ويوزعونه وكأن ما فيه حقائق لا يرقى إليها الشك!
قبل فترة انتشر فديو للرئيس الروسي، فلاديمير بوتن، وهو يقود كلبا عملاقا هائجا ويدخل إلى صالة فيها صحفيون آسيويون، وكان بوتن منشغلا بتهدئة الكلب عبر إطعامه نوعا من الطعام الجاهز، بينما ينتظره الصحفيون في الجانب الآخر. لكن الخبر الذي رافق الفيديو كان يقول (بوتن يستقبل رئيس الوزراء الياباني بطريقة غريبة)! طبعا، من الصعب على غير المتابعين التعرف على رئيس الوزراء الياباني، لذلك صدق كثيرون بأن بوتن فعلا استقبل رئيس الوزراء الياباني مع كلبه الهائج “إذ أراد إرسال رسالة ما إلى اليابان” عبر هذه البهلوانيات!
رابط فديو استقبال الرئيس الروسي بصحبة كلبه لصحفيين يابانيين
https://www.youtube.com/watch?v=P4YRV9evA6k&t=124s
في الدول الهائجة سياسيا، والمبتلاة بالخزعبلات والثوريات، تغيب الحقائق وينشغل الناس بتداول الشائعات والتحليلات السطحية والهامشية، بينما تتراجع مستويات المعرفة والثقافة والتعليم والمعيشة، ويبدو العالم، وكأنه في القرن التاسع عشر أو قبله، وليس في عصر العلوم والشفافية والاتصالات والفضائيات والإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي المتنوعة والسريعة. وسبب كل هذه الفوضى هو حجم التضليل الذي تعرضت له شعوب تلك الدول بسبب جنوح حركات سياسية (ثورية) للاختباء تحت شعارات مضلِّلة براقة وأهداف سامية، من أجل الاستيلاء على السلطة والتمتع بامتيازاتها على حساب الآخرين.
وبدلا من أن ينشغل الناس بالمفيد وكيفية تطوير حياتهم وتعليم أبنائهم ومتابعة شؤونهم الخاصة، ومعرفة ما يجب عليهم أن يفعلوه كي يجعلوا حياتهم أفضل، فإنهم يجدون أنفسهم منشغلين بأمور تافهة، وأكاذيب ومعلومات ملفقة، وكل ذلك بسبب نشاطات ما يطلق عليه في العراق (جيوش الذباب الألكتروني)، التي تنشغل بالافتراءات والأكاذيب وتوزيع الاتهامات على الخصوم وتوجيه السباب والشتائم لكل المثقفين المنشغلين بالتنوير وتوعية الناس وكشف الحقائق.
أما الدول التي حباها الله بأنظمة سياسية مستقرة، وطبقات سياسية مخلصة ومتمرسة، فإنها تبني وتؤسس لمجتمعات سليمة ومنتجة، والناس فيها ينصرفون إلى ما يجيدون من الأعمال والنشاطات، ولا يتحدثون بما يجهلون، ولا يصدقون بكل ما يسمعون، بل يستقون المعلومات من مصادرها الصحيحة، وينصتون إلى أصحاب المعرفة والمتخصصين والصحفيين المتمرسين والمثقفين الموثوقين. لذلك تطورت هذه الدول وارتفعت مستويات شعوبها المعرفية والمعاشية، ولم تضعفها كثرة الشائعات والافتراءات لأنها قادرة على التمييز بين الصالح والطالح.
المعلومات في عالم اليوم متاحة للجميع، ويمكن من يبحث عن الحقيقة أن يعرفها بتفاصيلها، خصوصا أولئك الذين يجيدون لغات أخرى. لكن الحذر يبقى مطلوبا، فليس كل ما يجده المرء منشورا في الإنترنت صحيحا، فهذه المساحة تنتشر فيها الأخبار غير الدقيقة أيضا، ولحد الآن لا يوجد قانون يسري على كل دول العالم، ويحاسب مروجي الأكاذيب، خصوصا إن كانت هناك دول تأويهم وترعاهم. لكن هذا لا يعني الاستسلام للشائعات. فكل مؤسسة وشركة وشخصية عامة وخاصة لديها الآن موقع رسمي، سواء على الإنترنت أو اليوتيوب أو الفيسبوك أو تويتر، أو كلها معا، ويمكن مراجعة الموقع المعني لمعرفة الحقيقة.
في هذا العصر، يحتاج المرء لأن يفعِّل قابلياتِه التحليلية ويتفحص ويتمعن في كل معلومة تصله قبل أن يصدقها، ولابد من البحث عنها وتقصي الحقائق من مصادرها، فهي متوفرة ويمكن الوصول إليها بسهولة. لا يمكن أن تتقدم المجتمعات إن كان مثقفوها ومتعلموها غير قادرين على تحليل المعلومات وتمييز الغث من السمين.
وسائل الإعلام المسؤولة تتحمل أيضا مسؤولية أخلاقية وإنسانية في اختيار من لديه التخصص والخبرة والقدرة على التحليل للمشاركة في برامجها وأخبارها. في وسائل الإعلام المهنية العالمية، هناك أقسام متخصصة بالمتابعة والبحث المتواصل عن مشاركين مؤهلين للتعليق على الأحداث من أجل تنوير المتلقي وتوعيته بالحقائق وتقديم برامج نوعية متميزة.
عصرنا هو عصر التخصص، فليس صحيحا أن يتصدى المرء لأمر ليس أهلا له، وليس متخصصا فيه، لأنه سوف يخفق في مسعاه ويتحول إلى فاشل، فلماذا يسعى المرء بقدميه إلى الفشل، في وقت يمكنه أن ينجح؟ ولو أن كل فرد مارس فقط ما يجيده من الأعمال والنشاطات، وأتقنه جيدا، فإن الجميع سيتحولون إلى ناجحين، وبذلك تتطور المجتمعات الحديثة. الافتراءات والأكاذيب تتقلص، أو ربما تختفي كليا، عندما لا يكون هناك متلقون لها أو مصدقون بها أو متواطئون معها، وهؤلاء يتقلص عددهم عندما ينشغلون بالمفيد من النشاطات.
قبل أيام استقالت منيرة ميرزا، مديرة قسم رسم السياسات في رئاسة الوزراء البريطانية، ومستشارة رئيس الوزراء، بوريس جونسن، وأقرب حلفائه السياسيين، وقد كانت تُلَقَبُ بـ(عقل جونسن)، لأنها تقف وراء نجاحه السياسي منذ عشر سنوات! استقالت ميرزا احتجاجا على إطلاق جونسون تهمة كاذبة على زعيم المعارضة، السير كيير ستارمر! انتصرت ميرزا للحقيقة، وإن كان المستفيدُ منها خصمَها، زعيم حزب العمال المعارض، والمتضررُ منها حليفَها، رئيس الوزراء. هكذا تكون الأخلاق، وهكذا تكون المهنية في عالم اليوم. فالولاء، أولا وأخيرا، للحقيقة والإنصاف والضمير.
حميد الكفائي
https://www.skynewsarabia.com/blog/1500736-%D8%B9%D9%86%D8%AF%D9%85%D8%A7-%D8%AA%D8%B3%D8%AA%D9%87%D9%88%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9-%D8%A7%D9%94%D9%81%D8%B1%D8%A7%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B9%D8%A8