وهذا بالضبط ما حدث في الانتخابات العراقية الأخيرة، إذ حصلت «القائمة العراقية الوطنية» التي يقودها الدكتور إياد علاوي على 91 مقعداً من مجموع مقاعد مجلس النواب البالغ 325، بعدما كان لها 23 مقعداً فقط في المجلس السابق، وهو تقدم لم تستطع أي قائمة أخرى أن تحققه خلال الحقبة الديموقراطية الماضية.
هذا الفوز يعكس الاستياء الشعبي الواسع من حكومة المالكي التي لم تتعلم كثيراً من تجربتها في السلطة، بل واصلت مسلسل استعداء الآخرين، حتى حلفائها. وخلال السنوات الأربع الماضية، أغضب المالكي حلفاءه في التيار الصدري الذين أوصلوه إلى رئاسة الوزارة، وحاربهم عسكرياً بدلاً من اللجوء إلى الحوار لحل خلافاته السياسية معهم. كما أغضب أعضاء حزبه «الدعوة الإسلامية» الذي انشطر مرتين خلال السنوات الثلاث الماضية: قسم يقوده زعيم الحزب السابق، إبراهيم الجعفري، والقسم الثاني يقوده زعيم جناح «تنظيم العراق» السابق، عبدالكريم العنزي، اللذان انضما الى قائمة الائتلاف الوطني المنافسة.
وخلال فترة حكومته قاطعها ستة عشر وزيراً، بمن فيهم نائبه، من جبهة التوافق والتيار الصدري والقائمة العراقية، احتجاجاً على أسلوبه «الانفرادي» في الإدارة. كما أغضب حلفاءه الأكراد باستمرار ودخل في معركة مفتوحة مع مجلس الرئاسة في العام الماضي، بينما ساءت علاقته مع وزير داخليته لتصل إلى حد القطيعة، ما أثر سلباً في الأمن. وفي النهاية انشق عن حلفائه السابقين في «الائتلاف العراقي الموحد» عندما شعر بالقدرة على الفوز منفرداً، ليشكل «ائتلاف دولة القانون» من مجاميع وشخصيات لا يجمعها جامع سوى حب السلطة، والكثير منهم غادر قوائم منافسة أو أُقصي منها. لكنه تمكن من إدخال عدد من أعضاء حزبه إلى البرلمان للمرة الأولى تحت مظلة «دولة القانون».
خلال فترة حكم المالكي لم تتحسن الخدمات بل ساءت كثيراً خصوصاً في بداية حكمه، وبعد أربع سنوات، أخبرتنا وزارة الكهرباء بأنها الآن تمكنت من توفير الكهرباء لمدة «12 ساعة في اليوم»! ولم يعد معظم المهاجرين والمهجرين إلى منازلهم أو مدنهم الأصلية، بل لا يزال مئات الآلاف منهم يقاسون شظف العيش في الخارج أو الداخل.
ولا يزال ملايين العراقيين عاطلين من العمل، بينما لم يعوَّض ضحايا الإرهاب ولم يُلاحَق المجرمون الذين قتلوا واختطفوا وهجّروا ملايين العراقيين، ولا نعرف عن قضية واحدة مهمة أن مرتكبيها قد نالوا عقابهم العادل، بما فيها قضية اختطاف وكيل وزارة الصحة، عمار الصفار، الذي كان ينتمي إلى حزبه، ورئيس اللجنة الوطنية الأولمبية، أحمد الحجية، الذي اختطف هو وزملاؤه من وسط بغداد في وضح النهار، واغتيال مستشار وزارة الثقافة، المفكر كامل شياع، أو أي من جرائم القتل الانتقائي أو العشوائي الأخرى، خصوصاً تلك التي ارتكبت بحق الصحافيين والكتاب الذين ماتوا وهم يتصدون بجرأة للأخطاء والتجاوزات التي عمّت العراق خلال السنوات الأربع الماضية. وفي عهده أيضاً نفد رئيس هيئة النزاهة بجلده إلى الخارج بسبب الضغوط التي مورست عليه ومنعته من أداء عمله بحسب قوله.
ناخبون كثيرون صوّتوا سابقاً للائتلاف الذي جاء بحكومة المالكي لأنهم اعتقدوا أن حكومته ستحقق لهم العيش الكريم وتوفر لهم الخدمات الأساسية والأمن، وتوهّم كثيرون منهم بأن المرجعية الدينية تؤيد التصويت لتلك القائمة على رغم أن المرجعية لم تفضل قائمة على أخرى وأوضحت ذلك مراراً وتكراراً. لكن الدعاية المضلِّلة التي انتهجها الائتلاف في انتخابات 2005 والتي تضمنت توزيع ملصقات كبيرة للمرجع السيستاني كتب عليها رقم القائمة المميز 555، قد أقنعت كثيرين بالتصويت لها.
لا يمكن إنكار أن هناك إنجازات تحققت خلال حكومة المالكي، ومنها تحسن الأمن خلال عام 2008 لكنه عاد وانتكس انتكاسة كبيرة منذ آب (أغسطس) 2009 من دون أن تبين لنا الحكومة أسباب هذا الانتكاس أو المسؤولين عنه، سوى اتهام بعض دول الجوار بإيواء الإرهابيين. وفي هذا الصدد، لا يمكن إغفال دور أبناء «الصحوات» في تحسين الأمن في الأنبار والموصل وبغداد وديالى عندما حاربوا المجاميع المسلحة وطردوها من مناطقهم.
كان المالكي وأعضاء قائمته مطمئنين، لسبب ما، بأنهم سيحصلون على العدد الأكبر من المقاعد في البرلمان الجديد، ما سيمكن المالكي من البقاء في كرسي رئاسة الوزراء لأربع سنوات أخرى، وكانوا يشيدون بنزاهة الانتخابات وأداء المفوضية، لكنهم وقبل أسبوع واحد من إعلان النتائج فوجئوا بالصعود المفاجئ للقـائمة العراقيـة، عندها غيروا خطابهم وبدأوا يشككون في عمل المفوضية وادعوا أن هناك حملة للتلاعب بالنتائج لمصلحة القائمة العراقية «تقف وراءها جهات إقليمية ودولية»!
وليس معلوماً كيف يمكن هذه «الجهات الدولية» أو المعارضة أن تزوّر الانتخابات في وقت تمسك الحكومة بزمام الأمور كلها لأربع سنوات، كما أن أعضاء مفوضية الانتخابات قد اختيروا بعناية من بين مرشحين لأحزاب الحكومة، ما يعني أنهم محل ثقة الحكومة ولا يمكن أن يتلاعبوا بالنتائج لمصلحة المعارضة التي لا علاقة لهم بها أساساً. كما ارسل المالكي رسالة إلى المفوضية باعتباره «قائداً عاماً للقوات المسلحة» يحذرها فيها من التلاعب بالنتائج، ومن الواضح أنه يهدد باستخدام القوة العسكرية، متناسياً أنه وصل إلى هذا المنصب عبر الانتخابات ولا يمكنه استخدامه لتغيير النتائج لمصلحته.
من المفيد هنا تذكير المالكي بأن أول انتخابات في العراق الجديد كانت قد أجريت في ظل حكومة الدكتور إياد علاوي الذي سلّم السلطة بكرامة وعفة إلى الفائزين فور تشكيل الحكومة ولم يهدد باستخدام القوة العسكرية على رغم أنه هو الذي أسس الجيش والشرطة وكان ولا يزال يمتلك سلطة معنوية على الكثيرين من منتسبيهما.
وبعد إعلان النتائج، خرج علينا المالكي بخطاب غاضب مهدداً باستخدام «هيئة المساءلة والعدالة» ضد بعض الفائزين، وهذا دليل آخر على عدم حيادية هذه الهيئة التي بات إلغاؤها ضرورياً لسيادة القانون والعدالة وتماسك العراق ووحدة شعبه.
لقد صوت العراقيون في الشمال والغرب والوسط والجنوب، من السنّة والشيعة والعرب والتركمان لقائمة الدكتور علاوي بعدما أدركوا بالدليل القاطع أنه الأفضل لوحدة العراق وتقدمه وتماسك شعبه، وبعدما جربوا سياسات خصومه المؤججة للصراعات الطائفية والمناطقية وغير المجدية في تحقيق الأمن والخدمات، وملوا من تسييس الدين والخطابات التي تركز على الماضي وتنسى المستقبل. لقد خسر المالكي هذه الانتخابات على رغم وجوده في الحكومة لأربع سنوات وامتلاكه وسائل الفوز التي لم يُجِد استخدامها. مسؤوليته الدستورية والقانونية والأخلاقية تحتم عليه الآن تسليم السلطة للفائزين حينما يشكلون الحكومة، فالديموقراطية تستدعي التواضع عند الفوز والاعتراف بالخطأ ومراجعة النفس عند الخسارة، والأهم من ذلك القبول بنتائج الانتخابات مهما كانت قاسية لأنها تعكس إرادة الناخبين.
http://international.daralhayat.com/internationalarticle/124601