في كوكب العراق، الحكومة تسرق أموال الدولة!
سكاي نيوز عربية: 2 ديسمبر/كانون الأول 2022
لم يحصل في تأريخ الدول أن النظام السياسي الحاكم، من برلمان وحكومة ومؤسسات رقابية، يخطط وينسق ويتآمر لسرقة أموال الدولة التي يحكمها، دون أدنى اكتراث لمصالح الشعب أو الدولة.
قد يحصل أحيانا أن مسؤولا كبيرا أو صغيرا يخالف الإجراءات أو يتجاوز على المال العام، وقد حصل هذا في بعض الدول، لكن أن تُسرَق أموال الدولة بالمليارات من دائرة الضرائب وتحوَّل عبر البنك الرسمي للدولة إلى شركات قشرية حديثة التأسيس، فهذا أمرٌ لم يحصل إلا في كوكب العراق!
المفكر د. علي النشمي: من سخريات القدر، من سخريات القدر، من سخريات القدر أن يصير كاظمي رئيسا للوزراء في العراق
صحيح أن مئات المليارات قد ذهبت هدرا منذ عام 2003، ومعظمها ذهب إلى جيوب الفاسدين من المسؤولين ووكلائهم في الداخل والخارج، الذين أصبحوا يشترون العقارات بملايين الدولارات خارج العراق، كما اعترف أحد أبطال “سرقة القرن” قبل أيام، لكن تلك السرقات قد حصلت بالطرق “المألوفة” وهي تلقّي الرِشى والعمولات أو ممارسة الابتزاز وعرقلة مصالح الناس لقسرهم على دفع الإتاوات. لكن السرقة الأخيرة حصلت عبر مؤسسات الدولة ووفقا لكتب رسمية من البرلمان ورئاسة الوزراء، ومن خلال بنك الدولة الرسمي وبعلم البنك المركزي.
تفاوتت الأرقام حول حجم هذه السرقة، التي بدأ التخطيط لها في يوليو 2021، وأعلن عنها قبل أيام من مغادرة الحكومة السابقة، وربما لو بقيت تلك الحكومة في السلطة، لما عرف بها أحد. الرقم المعلن هو 2.7 مليار دولار، ولكن، قيل لاحقا إن المبلغ المسروق يصل إلى خمسة مليارات دولار.
غير أن وزير المالية في الحكومة السابقة، علي علاوي، الذي استقال قبل اندلاع الفضيحة بشهرين، قال في حديث لمؤسسة “تشاتام هاوس” البحثية البريطانية المعروفة، في منتصف نوفمبر الجاري، إن 12.5 مليار دولار قد سُرقت من أموال دائرة الضرائب العراقية، وما يقوله وزير المالية لابد أن يكون دقيقا.
والأموال المسروقة هي ودائع ضريبية (أمانات) دفعتها الشركات العاملة في العراق، ومعظمها أجنبية، إلى دائرة الضرائب، كضمانات، تُستَقطَع لاحقا من ديونها الضريبية المستحقة للدولة، بعد اكتمال المشاريع التي تنفذها. وتلك الأموال حسب القوانين الرسمية المرعية، لا تُعاد إلى الشركات إلا بعد تدقيقها من قبل ديوان الرقابة المالية، وهو أعلى سلطة محاسبية في العراق.
ولأن إجراءات التدقيق طويلة ومعقدة، فإن معظم الشركات، خصوصا الكبيرة منها، لا تطالب بهذه الودائع، لذلك تراكمت الأموال بمرور السنين وصارت بالمليارات. وحسب المادة 26 من قانون الإدارة المالية، فإن أموال الودائع الضريبية تعود لخزينة الدولة بعد خمس سنوات، إن لم تقدَّم البيانات الختامية لتلك الشركات إلى دائرة الضرائب، أو أنها لم تطالب بها.
لكن رئيس اللجنة المالية في البرلمان السابق، هيثم الجبوري، وهي اللجنة التي يفترض أنها تعمل على حماية المال العام، كتب إلى وزارة المالية مطالبا بإعفاء تلك الأموال من التدقيق المحاسبي الذي تقوم به الهيئة المالية الرقابية العليا، مبررا ذلك بكثرة الشكاوى نتيجة لتأخر التسديد، لكنها على الأرجح محاولة لتسهيل السيطرة على تلك الاموال.
لم يفُز الجبوري في الانتخابات الماضية، لكن الكاظمي لم يبخل عليه بمنصب رفيع، إذ عينه مستشارا “للشؤون الفنية”، الأمر الذي مكَّنه من متابعة عملية تحويل أموال الودائع الضريبية إلى شركات قشرية حديثة التأسيس، إحداها تحمل اسم “القانت”! إصرار السرّاق على استخدام الصفات الدينية، حتى في السطو المفضوح، منقطع النظير، ويبدو أنها أفضل وسيلة للخِداع.
ويقول الحقوقي سعد حسين في مقابلة مع جريدة الشرق الأوسط بتأريخ 20/10/2022، إن السرقة تمت بتخطيط رئيسي من اللجنة المالية البرلمانية، ورئيسها هيثم الجبوري، وبتواطؤ من رئيس ديوان الرقابة المالية، وموافقة مكتب رئيس الوزراء. أي أن السلطات التشريعية والتنفيذية والرقابية الحكومية الثلاث قد خططت، مع سبق الإصرار، لسرقة أموال الدولة، في عملية منظمة ليس لها مثيل في التأريخ، ولم تجترحْها حتى أعتى العصابات الإجرامية الدولية، لكن ممثلي الشعب ومجاهديه نفذوها بسهولة وانسيابية على مدى بضعة أشهر.
هيثم الجبوري رئيس اللجنة المالية البرلمانية يطلب من وزارة المالية إعفاء أمانات الضرائب من تدقيق ديوان الرقابة المالية لتسهيل سرقة القرن
ويقول تقرير مفصل لجريدة الغارديان البريطانية المرموقة، أعدته الصحفية سايمونا فولتين في بغداد، ونُشر في 20/11/2022 تحت عنوان (سرقة القرن: كيف سُرِق ملياران ونصف المليار دولار من أموال الدولة العراقية) إن “سرقة القرن” نُفذت بتواطؤ مسؤولين في دائرة الضرائب لديهم صلاحية التوقيع على الصكوك، وإن شبكة المشاركين فيها عيَّنها مدير الضرائب السابق، شاكر محمود، حسب مصادر في وزارة المالية. واستنادا إلى كتاب من مكتب رئيس الوزراء، ومكالمة هاتفية مع ديوان الرقابة المالية، قرر محمود رفع التدقيق عن عملية تحويل الأموال، حسب وثيقة اطلعت عليها الغارديان. وتذكر الصحيفة استنادا إلى مصادر موثوقة أن الموظفين في دائرة الضرائب الذين احتجوا على العملية، أو انتقدوها، عوقبوا بالنقل، علما أن لافتة قرب المصعد في مبنى الدائرة، تطالب الموظفين بتقديم المعلومات عن أي إجراءات مشبوهة.
وتعزو الجريدة إلى عضو سابق في اللجنة المالية البرلمانية قوله إن مقترح رفع التدقيق الأصولي عن سحب الأموال، كان يجب أن يكون “عَلَما أحمر” بالنسبة لحكومة وعدت بمكافحة الفساد، وبدلا من ذلك، فإن كلَّا من ديوان الرقابة المالية ومكتب رئيس الوزراء، قد أصدر كتابا يسمح بإلغاء التدقيق، وكان هذا “جزءا من الخطة” حسب قول عضو اللجنة المالية البرلمانية للصحيفة.
وتستند الصحيفة إلى وثائق مسربة حصلت عليها، ومقابلات أجرتها مع 12 مسؤولا حكوميا ومصرفيا ورجل أعمال، لديهم معلومات حول القضية، لكنهم رفضوا الإعلان عن أسمائهم خوفا من الانتقام، وتقول “إن سرقة بهذا الحجم ما كان يمكن أن تُرتَكب إلا بعلم عدد كبير من المؤسسات، بما فيها مكتب رئيس الوزراء، والبنك الذي أطلق الأموال (مصرف الرافدين)، وهيئة النزاهة والبنك المركزي”. وتعزو الصحيفة لعضو سابق في اللجنة المالية البرلمانية قوله “إن هناك اتفاقا بأن يحصل كل طرف على حصته من الأموال”.
وتضيف الصحيفة أن استغلال الدولة قد تعمق كثيرا في عهد الكاظمي الذي دعمه الغرب لأنه قطع عهدا بمحاربة الفصائل المسلحة المتحالفة مع إيران، مثل منظمة بدر وأنه يفتقر إلى القاعدة السياسية وقد أصبح ضعيفا أمام ضغوط الأجنحة المسلحة، التي سعت إلى إحكام سيطرتها على المناصب الحكومية المربحة. وتنقل الصحيفة عن أحد المسؤولين في دائرة الضرائب قوله “إن تقاسم المناصب صار سائدا بشكل أكبر في عهد الكاظمي، فهذه هي الوسيلة الوحيدة التي تمكَّنه من البقاء في منصبه”.
الشهيد الحي كاظمي: ألو عماد: أنا ترا مال الناس مو مالتك!
كما تعزو الصحيفة إلى مصادر عديدة قولها إن عددا من المقربين من الكاظمي كانت لهم علاقات وطيدة برجل الأعمال الذي نفذ السرقة، (وهو نور زهير جاسم، الذي اعتُقِل ثم أطلِق سراحه بكفالة)، بمن فيهم رائد جوحي، مدير مكتب رئيس الوزراء. وأشارت إلى أن ضابط المخابرات، ضياء الموسوي، الذي عينه الكاظمي مديرا للمركز الوطني للعمليات، هو الآن هارب بعد أن صدرت بحقه مذكرة استدعاء بتهم فساد أخرى غير متعلقة بسرقة القرن.
وتضيف الصحيفة، وفقا لسبعة مصادر، أن شاكر محمود، وباقي منفذي السرقة، تدعمهم منظمة بدر التي تتحكم بالتعيينات المتعلقة بالضرائب والجمارك، رغم أن رئيس الوزراء يجب أن يوافق عليها رسميا. وبينما كان من صلاحية وزير المالية، توقيع أوامر التعيين، إلا أن سلطته محدودة فيما يتعلق باختيار الموظفين، وأن اثنين من مرشحيه لتولي مناصب في الوزارة، لم يتمكنا من تولي منصبيهما، لأنهما تلقيا تهديدا من منظمة بدر. وتذكر الصحيفة أن شاكر محمود قد نُقل إلى دائرة الجمارك، وأن هناك مشروعا مماثلا يجري تنفيذه فيها! ووفقا لأحد المسؤولين فإن وزير المالية لا يمكنه أن ينقل أي موظف من موقعه “لأن بدر لا تقبل بذلك” وأن الوزير لم يتمتع بدعم الكاظمي.
كما نقلت الصحيفة نفي مكتب الكاظمي أي مسؤولية له عن السرقة، وأنه يلقي بالمسؤولية كاملة على وزارة المالية، وأن “العملية بدأت في دائرة الضرائب وانتهت في مصرف الرافدين، وكلاهما يقعان ضمن مسؤولية وزارة المالية”! لكن وزير المالية أحس بوجود إجراءات مشبوهة في مصرف الرافدين، فأصدر قرارا في نوفمبر 2021 بعدم قانونية سحب الأموال من المصارف الحكومية إلا بموافقته، لكن سحب الأموال دون علم الوزير قد استمر، ما يعني أن سلطة أعلى منه أجازت سحب الأموال، الأمر الذي دعاه إلى الاستقالة في أغسطس الماضي. وحينما أمر خليفته، إحسان عبد الجبار، بإجراء تحقيق، اصطدم بالبرلمان، ما أدى إلى إزالته من المنصب، في إجراء يراه مراقبون بأنه محاولة لإعاقة التحقيق في السرقة.
لم يذكر علاوي في بيان استقالته المطول شيئا عن “سرقة القرن” رغم أنه كان يعلم بها، كما يشير إلى ذلك قراره بمنع سحب الأموال من المصارف دون إذنه. وبدلا من ذلك، استطرد في تفصيل نظري للمشاكل المعروفة التي يعاني منها البلد. كما أنه لم يرد على اتهام مكتب رئيس الوزراء لوزارته، بأنها المسؤولة عن السرقة، لأن دائرة الضرائب ومصرف الرافدين يقعان تحت سلطتها. كما رفض الإدلاء بأي معلومة حول الموضوع، وهذا مستغرب حقا، فلماذا يصمت وزير المالية الذي حصلت السرقة في عهده، وضمن قطاع وزارته، في وقت يتحدث العالم عن هذه السرقة المبتكرة، التي قال إنها بحجم 12.5 مليار دولار.
وزير المالية علي علاوي يستقيل قبل شهرين من الكشف عن سرقة القرن دون أن يشرح للشعب كيف حصلت السرقة ومن المسؤول عنها
إن كانت الأمور قد وصلت إلى هذه الدرجة من التدني والاستهتار بالقانون والاعتداء على المال العام وتحدي مشاعر الشعب، من جماعة وصلت إلى السلطة باسم الدين والمظلومية الشيعية، ومازالت تتكلم بوقاحة، قل نظيرُها، عن الجهاد وشرع الله وأهل البيت واتِّباع إرشادات المرجعية الدينية، فما هي يا ترى الحلول العملية لمشكلة العراق؟ وهل يتمكن رئيس الوزراء الجديد، محمد شياع السوداني، من أن يوقف الفساد أو يحد منه؟
الاختبار الحقيقي لحكومة السوداني هو، ليس جلب المسؤولين عن هذه الجريمة إلى العدالة فحسب، فهذا ممكنٌ وسهلٌ جدا لأن الأدلة كلها متوفرة، والعملية واضحة لكل ذي عقل. والنجاح الحقيقي يكمن في إصلاح هيكل الدولة، بحيث يكون عصيا على الفساد، وإيكال معظم المهام التي فشلت الدولة في أدائها، إلى القطاع الخاص المدعوم بقوة القانون، وتنحية المسؤولين غير الأكفاء الذين تمتلئ بهم مؤسسات الدولة، عن مواقعهم.
إن تضخم الجهاز الحكومي، واعتمادَ العراق على أموال النفط، هما أساس المشكلة. ومازال القطاع الخاص المنظم غائبا، فإن الدولة ستبقى المشغِّل الأول لمعظم الأيدي العاملة، وهذا يعني استمرار الفساد وتوسعه واستغلال أموال الدولة لأغراض سياسية وشخصية. إن لم يستطع السوداني أن يحاسب مجرمي “سرقة القرن”، فإنه سيجعل من العراق “فضيحة القرن”، وعليه إجراء انتخابات مبكرة وتسليم السلطة لمن يختاره الشعب لإدارة شؤونه. لديه فرصة نادرة لضرب الفاسدين بقوة، وهو قادر على ذلك، فأجهزة الدولة كلها تأتمر بأمره، رسميا على الأقل. فإن فعل، فإنه سوف يكسب سياسيا ويزداد قوة وشعبية، تمكنانه من الاستمرار في السلطة وتحسين أوضاع بلدٍ، طالما عانى من العبث السياسي والتدخل الخارجي.
التلكؤ في مواجهة الفاسدين والجماعات المسلحة التي تقف خلفهم، سوف يدفع الشعب المتضرر من الفساد، إلى الوقوف ضد حكومة السوداني، وإنْ وقف الشعب ضده، فلن تنفعه الجماعات المسلحة المنبوذة، التي يدعمها النظام الإيراني، المحاصر داخليا وخارجيا، وسوف يلقى مصير سلفه، عادل عبد المهدي، إن لم يكن مصيرا أسوأ منه، ولا أتمنى له هذه النهاية لأنه يستحق أفضل منها. الأولوية يجب أن تكون لخدمة مصالح الشعب، الذي انتظر طويلا من يخلِّصه، وليس لمجاملة حملة السلاح وداعميهم.
حميد الكفائي