هل “الأسرة السياسية الأوروبية” بديلٌ للاتحاد الأوروبي أم امتدادٌ له؟
سكاي نيوز عربية: 5 يونيو/حزيران 2023
كان الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران أول من اقترح قيام تجمع “الأسرة السياسية الأوروبية” (EPC) عام 1989، بعد انهيار الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية، بهدف إيجاد مساحة مشتركة للتفاهم والتعاون بين الدول الأوروبية.
لكن فرنسا تخلت عن الفكرة، بعد أن اتخذ الاتحاد الأوروبي قرارا، بتشجيع أمريكي، بضم معظم دول أوروبا الشرقية إلى عضويته. ويعتقد مراقبون أن الفكرة تولدت أساسا بسبب معارضة فرنسا لتوسع الاتحاد الأوروبي ليشمل دول أوروبا الشرقية، لذلك نشأت الحاجة لوجود إطار آخر للتنسيق بين الدول الاوروبية.
لكن فرنسا عادت لتعتنق الفكرة مرة أخرى في العام الماضي، بعد مرور ثلاثة عقود على التخلي عنها، عندما قرر الرئيس الفرنسي، فرانسوا ماكرون، إحياءها، فعقد زعماء 44 دولة أوروبية قمة لهم في شهر أكتوبر من عام 2022، في العاصمة التشيكية، براغ، التي تقرر فيها أن تنعقد قمة دورية للدول الأوروبية، لتعزيز التفاهم حول الأمن والقضايا المهمة الأخرى.
وقد استضافت مولدوفا القمة الأوروبية الثانية في الأول من الشهر الجاري، وحضرها زعماء 45 دولة أوروبية. وسوف تستضيف إسبانيا القمة المقبلة، وبريطانيا القمة التي تليها في عام 2025. ومولدوفا دولة محاذية لأوكرانيا، وصارت قريبة جدا من ساحة الحرب الروسية الأوكرانية، خصوصا بعد احتلال روسيا شبه جزيرة القرم، وهي الدولة الأكثر فقرا في أوربا، لكن القمة سلَّطت الأضواء عليها ورفعت أهميتها.
تركيا، المتأرجحة بين آسيا وأوروبا، كانت مدعوة لحضور القمة أيضا، وكان يفترض أن يحضرها الرئيس رجب طيب أردوغان، لكنه انسحب في اللحظة الأخيرة. تركيا مازالت تقيم علاقات اقتصادية مع روسيا، وهي غير منسجمة مع الموقف الأوروبي والأمريكي، ورغم أنها عضو في الناتو، فإنها عارضت توسع الحلف ليضم السويد وفنلندة. وبعد أن تخلت عن معارضتها لانضمام البلديْن، اللذين التحق أحدهما (فنلندة) بالحلف رسميا، والآخر (السويد) في طور الالتحاق، بقيت تلعب دورَ الوسيط بين الغرب وروسيا، محاولة الاستفادة الاقتصادية من الضيق الذي تعانيه روسيا من العقوبات الغربية.
رئيس الوزراء البريطاني، ريشي سوناك، ألقى خطابا في القمة ركز فيه على قضية الهجرة، وكيف أن بريطانيا تقود أوروبا في الحد من الهجرة غير الشرعية! خطاب سوناك أغضب الأوروبيين، وصار موضع سخرية السياسيين والصحفيين. جدول أعمال القمة يخلو تماما من أي ذكر للهجرة، والأهداف المعلنة هي ثلاثة: “الجهود المشتركة لتحقيق الأمن والسلام، وسبل التكيف مع شحة الطاقة، ومعالجة التغير المناخي”.
مراسل قناة فرنسا 24، ديف كيتينغ، قال في تغريدة على تويتر إن سوناك “يُنشِد نشيدا مختلفا عن باقي الأوروبيين، ولا يدرك بأنه ينشِد وحيدا، فقمة مولدوفا ليست مخصصة للهجرة”. أما لويجي سكازيري، من مركز الإصلاح الأوروبي، فقال “علامتان سيئتان عن قمة مولدوفا. الأولى أن سوناك لم يذكرها على الإطلاق، فبالنسبة له هي قمة لمناقشة الهجرة، والثانية أن أردوغان قرر عدم حضورها”. بينما قال فيليب بيرنار، الكاتب في جريدة لوموند الفرنسية: “رئيس الوزراء البريطاني يدَّعي دون حياء بأنه يقود القمة، بينما المنظمة الجديدة هي من بنات أفكار الرئيس الفرنسي، وهي تهدف للبرهنة على الوحدة الأوروبية في وجه العدوان الروسي على أوكرانيا”.
مجلة بوليتكو الأمريكية اعتبرت تأسيس (EPC) رداً على الغزو الروسي لأوكرانيا. ولا يبدو هذا الربط بعيدا عن الواقع، فعندما اقترح الرئيس ميتران الفكرة عام 1989، وهو العام الذي انهارت فيه الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية، كان الهدف هو استيعاب تلك الدول، المنفكة تواً عن حلف وارشو، ضمن تجمع دول أوروبا الغربية، وكسبها إلى التحالف الغربي، بعيدا عن روسيا.
ولابد أن يكون إحياء هذا التجمع مرتبطا مرة أخرى بردع الطموحات التوسعية الروسية، ولابد أن يكون الغزو الروسي لأوكرانيا، في فبراير من عام 2022، محفِّزا له.
اختيار مولدوفا لاستضافة القمة لم يأتِ صدفة، فمولدوفا تحاذي أوكرانيا، وهي من أكثر دول الاتحاد السوفيتي السابق تحمسا لدعم أوكرانيا ضد روسيا، إلى جانب أستونيا ولاتفيا وليتوانيا، إضافة إلى بولندا، وهي الأكثر تحمسا على الإطلاق. الملاحظ بوضوح هو الدور الفرنسي الفاعل في هذا التجمع، والأكثر وضوحا هو تغير لهجة الرئيس ماكرون تجاه روسيا، إذ كان قد دعا سابقا إلى التسامح معها بعد انتهاء الحرب.
لهجته التصالحية تحولت إلى متشددة، إذ دعا في كلمته أمام مؤتمر قادة الاتحاد الأوروبي، الذي انعقد في العاصمة السلوفاكية، براتسلافا، أواخر الشهر الماضي، إلى أن يتخذ حلف الناتو قرارا في قمته المقرر عقدها في العاصمة الليتوانية، فيلنيوس، في يوليو المقبل، “بالتمهيد لانضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو”.
كما دعا ماكرون إلى توسعة الاتحاد الأوروبي، التي كانت فرنسا قد عارضتها سابقا، خصوصا في عهد الرئيس جاك شيراك، وإلى المصالحة بين أوربا الغربية والشرقية.
وقال إن روسيا فقدت الشرعية كليا، وإن على الأوروبيين مراجعة طبيعة الدعم المقدم لأوكرانيا، إن لم يحقق الهجوم الأوكراني المرتقب أهدافه. وأكد أن أوكرانيا لا تدافع عن حدودها فحسب، وإنما تدافع عن حدود أوروبا كلها، ودعا الولايات المتحدة إلى مواصلة سياستها الحالية الداعمة لأوكرانيا، مشدداً على أن الاوروبيين سيحتاجون إلى تعزيز قدراتهم الدفاعية والاستعداد لاحتمال انتخاب إدارة جمهورية في الولايات المتحدة، والتي قد تعيد النظر في التزامات الولايات المتحدة الخارجية. مؤكدا أنه “ليس صحيحا أن يترك الأوروبيون أمنهم واستقرار بلدانهم ليقرره لهم الناخبون الأمريكيون”.
ودعا ماكرون إلى البدء بجمع الأدلة لمقاضاة القادة الروس، وفي الوقت نفسه، يجب أن يكون هناك استعداد للتفاوض مع القيادة الروسية الحالية، ولكن في مسار مختلف عن المقاضاة.
وفيما يتعلق بحلف الناتو، الذي وصفه قبل ثلاث سنوات بأنه “ميت دماغيا” قال ماكرون إن الغزو الروسي لأوكرانيا كان بمثابة “جرس انذار للحلف الذي استجاب بشكل جيد لهذا الطارئ”، منوهاً إلى أن “بعض الأعضاء لم يفرضوا عقوبات على روسيا”، في إشارة إلى تركيا. وعلق الرئيس بوتن على ذلك بالقول إن ماكرون “أيقظ حلف الناتو بأسوأ صعقة كهربائية محتملة”.
وانتقد ماكرون ضمنيا ما قاله الرئيس الفرنسي الراحل، جاك شيراك، إن دول أوربا الشرقية “لم تستغل الفرصة بالصمت” عندما دعمت الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، الذي عارضته فرنسا، قائلا “ونحن أيضا لم نستغل الفرصة بالإنصات”، في إشارة إلى تجاهل أوروبا الغربية تحذيرات دول أوروبا الشرقية من الخطر الروسي.
لكنه طمأن الشرقيين بقوله إن على أن أوربا “ألا تسمح لروسيا أن تختطف أوروبا الشرقية مرة أخرى”.
الخلافات بين الدول الأوروبية جمعاء، مازالت كثيرة، وهي ليست بين الشرق والغرب فحسب، وإنما بين الدول الغربية أنفسها. فبريطانيا رغم عضويتها في الاتحاد الاوروبي لنصف قرن تقريبا، فإنها ظلت غير منسجمة، وفي النهاية اختارت الانسحاب. بل وحتى الدولتان الكبريان اللتان تقودان الاتحاد الأوروبي، فرنسا وألمانيا، لديهما خلافات عميقة حول قضايا العلاقات الخارجية والدفاعية والاقتصادية وتوسعة الاتحاد الأوروبي. لكن ما يميز العلاقة بينهما، أنهما لم تَدَعا الخلافات السياسية تحْرِف مسيرة أوربا نحو التقارب. لكن التقارب الأوروبي ظل بطيئا وأسيرا للأحداث الطارئة، كالغزو الروسي لأوكرانيا.
يبدو أن الرئيس ماكرون يتصدى لدور أوروبي كبير، وقيادة مشروع يمكن أن تجتمع عليه دول أوروبا، وهو تحقيق الأمن والاستقرار، وتوحيد مواقف الأوروبيين بخصوص مواجهة الخطر الروسي، الذي يتهدد أوربا الشرقية ابتداءً، ثم العالم الحر بزعامة الولايات المتحدة.
لكن ماكرون يعلم أن أي عمل أوروبي مشترك لن ينجح إن لم تساهم فيه ألمانيا وتؤيده بقوة، ثم تموله. لذلك قرر التفاهم مع المستشار الألماني، أولاف شولتز، أولا، كي يتفقا على الخطوط العريضة للمشروع. وسوف يلتقي الزعيمان في السادس من يونيو، للتفاهم حول مستقبل الاتحاد الأوروبي وسبل توسعته وتعزيز قدراته الدفاعية. وسوف تلحق هذا اللقاء زيارة رسمية إلى ألمانيا، هي الأولى لرئيس فرنسي منذ 23 عاما.
مشروع “الأسرة السياسية الأوروبية”-(EPC)، الذي ضم 45 دولة، بما فيها دول الاتحاد الأوروبي السبع والعشرون، هو مشروع واعد، وقد يتطور إلى تحالف عسكري واستراتيجي، لكن ليس على الأمدين القريب والمتوسط، بينما الخطر الروسي الذي يعتزم درأه، داهم، ولا يمكن أوروبا، غير المنسجمة سياسيا وعسكريا واقتصاديا، أن تواجه روسيا وتهزمها، إن لم تحظَ بدعم الولايات المتحدة الكامل. نعم، أوروبا قوية، بل يمكنها أن تكون الأقوى في العالم، ولكن عندما تتوحد، وهذا يبقى طموحا بعيد المنال.
الأوروبيون سعداء حاليا بالتعامل مع الولايات المتحدة كقائد للعالم الحر، لكن ثقتهم بها تزعزعت كثيرا في عهد الرئيس السابق ترامب، الذي أضعف تحالفات أمريكا عبر العالم، وهدد بالانسحاب حتى من حلف الناتو، ما شجع روسيا والصين على تحدي الغرب، وولَّد شعورا بأنه يتفكك وأن بالإمكان إلحاق الهزيمة به، وفي الوقت نفسه أضعف ثقة حلفاء أمريكا بها، ليس في أوروبا فحسب، بل في آسيا وأستراليا والشرق الأوسط وأفريقيا.
رئاسة بايدن عززت الثقة بأمريكا، خصوصا بموقفها المساند بقوة لأوكرانيا، لكن القلق قائم من احتمال تغير السياسة الخارجية الأمريكية عند فوز الجمهوريين بالرئاسة. لذلك فإن حلفاء أمريكا في العالم، المعتمدين عليها في صد الأخطار الخارجية، مضطرون لإعادة النظر بإجراءاتهم الدفاعية. الخطر الروسي يتضاءل بوجود دعم أمريكا غير المحدود لأوكرانيا، الذي تعززه المواقف الأوروبية الموحدة خلفها.
لكن العالم يتغير والدول الأوروبية ستبقى ضعيفة إن لم تكن لها سياسات اقتصادية واستراتيجية وعسكرية متناسقة. وكما قال الرئيس ماكرون، ليس صحيحا أن يضع الأوروبيون مستقبلهم بأيدي الناخب الأمريكي. الاتحاد الأوروبي، كتكتل اقتصادي، ناجح حتى الآن، لكنه لم يتطور إلى كتلة متناسقة سياسيا وتتصرف كدولة واحدة. لذلك صار ضروريا أن يكون هناك مساران لأوروبا. الأول هو الوحدة الاندماجية، التي يمثلها الاتحاد الأوروبي، والثاني هو التنسيق والعمل المشترك لدرء الأخطار المحدقة بها، الذي تمثله الأسرة السياسية. والمشروعان يتكاملان بمرور الزمن، ويعززان بعضهما بعضا.
حميد الكفائي
https://www.skynewsarabia.com/blog/1626781-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%94%D8%B3%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%94%D9%88%D8%B1%D9%88%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D8%A8%D8%AF%D9%8A%D9%84-%D9%84%D9%84%D8%A7%D8%AA%D8%AD%D8%A7%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%94%D9%88%D8%B1%D9%88%D8%A8%D9%8A%D8%9F