منذ سقوط الدكتاتورية حتى اليوم، والأحزاب الدينية منشغلة بما يفرق الناس لا ما يجمعهم، وبما يضرهم لا ما ينفعهم، وما يفرقهم ويميزهم عن أبناء بلدهم أكثر مما يجعلهم أمة واحدة، ومولية اهتماماً بالغاً لأحداث الماضي وعداواته وحروبه ومشاريعه، الفاشلة منها والناجحة، أكثر من الاهتمام بمشاريع الحاضر والمستقبل. أصبح بعض السياسيين، حتى من لا عهد لهم بالتدين، يقودون المسيرات «المليونية» إلى المراقد مشياً على الأقدام مرتدين (الدشاديش) ومتوشحين بالأسود والأخضر وكل ما يشير إلى الطائفة والمذهب والأرومة، بينما تولى رجال الدين العمل السياسي، وامتلأ بهم البرلمان ومجالس المحافظات والمؤسسات الحكومية، تاركين الإرشاد الروحي والمعنوي للسياسيين، الذين بزوهم في الوعظ الديني وإقامة مجالس العزاء والمناسبات الطائفية. وبدلاً من أن تمتلئ خطب الجمعة بالدعوة إلى الله والسلام والوئام والانسجام، أصبحت خطباً سياسية تهاجم الخصوم وتتهم هذا بمعاداة «المذهب»، وذاك بخذلان «الطائفة»، وتنتصر لهذا «المكوّن» ضد ذاك! لقد أصبح التحريض على الطائفية والتذكير بالاضطهاد الطائفي، المختلَق منه والحقيقي، واستفزاز العصبيات المذهبية والمناطقية، والمطالَبة بالفيدرالية لحماية (المذهب) من الأعداء، أهم أسس الخطاب السياسي العراقي، أما الأسباب الأخرى للفيدرالية، كتنمية الاقتصاد وترشيد الموارد وتوفير الخدمات للأهالي وتقليص البيروقراطية، فلا يتحدث عنها أحد. أصبحت الدوائر والمتاجر تتعطل فترات طويلة بسبب المناسبات الدينية التي يتزايد عددها باستمرار، وأصبح أكثر ما يشغل قوى الأمن هو حماية الزائرين الذين يتركون أعمالهم ووظائفهم من أجل إحياء الشعائر (فإنها من تقوى القلوب).
وقد أصبح التوظيف يتم على أساس المحسوبية والولاء السياسي والمذهبي والمناطقي والعائلي، ناهيك عن الفساد الذي لم يُبقِ في البلد باقية، بينما لا يُحسب للكفاءة والخبرة والسجل المهني والموقف الوطني أي حساب إلا في حالات نادرة. آلاف الأشخاص مُنِحوا رتباً عسكرية رفيعة في الجيش والشرطة دون أدنى اعتبار للتقاليد العسكرية، وآلاف غيرهم عُينوا في مناصب سياسية وإدارية رفيعة لأسباب سياسية وطائفية وعائلية وحزبية، بينما اجتُث آلاف آخرون أو هُمِّشوا أو أحيلوا على التقاعد للأسباب نفسها. في ظل أجواء كهذه، لماذا يُطالَب السنّة أن يكونوا وحدهم الوطنيين والمضحين والمدافعين عن وحدة العراق وعروبته وقوته ومكانته الدولية؟ فمازالت العملية هي تقاسم مغانم وتحقيق مكاسب لطائفة أو منطقة أو عائلة على حساب طوائف ومناطق وعوائل أخرى، لماذا لا يسعى السنة أيضاً لأن يحققوا مكاسب طائفية كي يضمنوا حصة معينة لهم وينصفوا أبناءهم الذين يعانون الاجتثاث والتهميش؟
دعوة النجيفي أسعدت كثيرين في الجانب الآخر من المعادلة، خصوصاً ممن برعوا باستخدام الطائفية والقومية لتحقيق مكاسب سياسية ومادية وممن وصلوا إلى مواقعهم عبر التشدق بالاضطهاد الطائفي والقومي. وما أسعد هؤلاء أكثر أن الدعوة جاءت من أكثر الشخصيات السياسية رصانة وموضوعية ومقبولية لدى العراقيين العرب. شخصية عبرت الحدود الطائفية بمواقفها المتزنة والشجاعة وبرهنت على تماسك وطني في ظروف صعبة، ما أكسبها صدقية واسعة. لكن دعوة النجيفي هذه جعلت «الكل في الهوى سوا»، وأفقدته كثيراً من رصيده الوطني في الوسط والجنوب، حيث كان كثيرون ينظرون إليه نظرة الحكيم والمضحّي، لكنه الآن أصبح كباقي السياسيين الطائفيين والمناطقيين الساعين لخدمة طائفة أو منطقة معينة دون الطوائف والمناطق الأخرى. أحسب أن النجيفي لم يختَر لنفسه هذا الدور المناطقي، ولا أقول الطائفي، لأنني أعرف أنه ليس كذلك، وقد بدا مضطراً للحديث عن «الإقليم السني» المقترح، وما دفعه إليه هو الشعور السائد لدى كثيرين من السنة من أن معركة إبقاء العراق موحداً قد خُسِرت، وأن عليهم أن يفكروا، كما يفكر «شركاؤهم» الآخرون، وأن يتخندقوا طائفياً مثلهم. ولكن ماذا عن (السنة) في بغداد وبابل والبصرة وديالى؟ وعن الشيعة في الموصل وصلاح الدين والرمادي؟ والأكراد خارج إقليم كردستان؟ والتركمان والمسيحيين والأيزيديين والصابئة؟ هل سيعيشون مواطنين من الدرجة الثانية في هذه الأقاليم الطائفية؟ أم سيشكلون كانتونات خاصة بهم؟ وماذا عن الشيعة والسنة الذين لا تعني الطائفة أو المذهب لهم شيئاً؟ هل سيُرغمون على التخندق طائفياً رغم أنوفهم؟
في الوقت الذي يتفهّم كثيرون دعوة النجيفي وزملائه لإقامة إقليم منفصل للسنة، فإن أغلب العراقيين وإن كانوا لا يعارضون الفيدرالية كنظام إداري يحقق الخدمات للسكان، لكنهم يعارضون بشدة أي محاولة للتقسيم على أسس طائفية لأن إجراء كهذا له بداية وليس له نهاية وهو في كل الأحوال لا يخلق دولة قوية تخدم كل مواطنيها، بل وطناً مقسماً ضعيفاً تعيش فيه كتل بشرية متناحرة.
http://international.daralhayat.com/internationalarticle/288024