كي لا تتحول الديمقراطية الكويتية إلى عبء على الدولة
كانت الكويت من الدول العربية السباقة إلى تأسيس نظام برلماني يتمتع بقدر من الديمقراطية والانفتاح السياسي والحريات العامة والصحافة الحرة، لكن الديمقراطية الكويتية بقيت قلقة ومنقوصة. قلقة لأن الأمير يلجأ إلى حل مجلس الأمة عند الأزمات السياسية، ومنقوصة لأن النساء لم يحصلن على حق التصويت والترشح إلا في عام 2005، وبقين غير ممثلات في مجلس الأمة، حتى بعد حصولهن على حق المشاركة السياسية.
ويمكن القول إن أسباب عدم استقرار الديمقراطية في الكويت مركبة، ولا يمكن أن يُلام عليها طرف دون آخر. فالأمير أصدر مرسوما يمنح النساء حق التصويت والترشح عام 1973، لكن مجلس الأمة، المنتخب ديمقراطيا، أوقف العمل به، بدلا من أن يرحب بتعزيز الديمقراطية وتوسيع التمثيل الشعبي، الذي يتمثَّل بمشاركة نصف المجتمع في العملية السياسية.
الأمر الآخر هو أن رئيس الوزراء لا يأتي عبر الانتخاب المباشر أو غير المباشر، بل يختاره الأمير، وهو في العادة من العائلة المالكة، ويمكنه اختيار وزراءه من خارج المجلس، لكنهم يصيرون أعضاءً فيه دون انتخاب وفق المادة 80، وفي هذا إشكال دستوري، لأن المادة 50 تنص على الفصل بين السلطات.
بقيت الحكومات الكويتية المتتالية مقيدة بالقوانين التي يشرعها البرلمان، وخاضعة دائما لمساءلة المجلس، الذي ازداد قوة وفاعلية بمرور الزمن. العلاقة بين المجلس والحكومة لم تكن دائما جيدة، وليس مطلوبا ولا طبيعيا أن تكون جيدة، لكن المطلوب هو التقيد بمواد الدستور والتحلي بالمرونة، وهذا ما لم يحصل دائما بسبب تشدد بعض النواب، ما أوصل الأمور إلى طريق مسدودة مرات عديدة، الأمر الذي استدعى حل المجلس.
من حق الأمير، وفق الدستور، أن يحل المجلس عند نشوء أزمة سياسية غير قابلة للحل عبر التفاوض، ويحدد الأمير في العادة الأسباب التي دعته إلى حل المجلس، وفي الوقت نفسه يدعو إلى انتخابات مبكرة خلال شهرين من تأريخ الحل، فإن لم تُجرَ الانتخابات خلال شهرين، يسترد المجلس المنحل كامل سلطاته الدستورية وفق المادة 107 من الدستور. أما القرارات التي يصدرها الأمير أثناء فترة الحل أو العطلة التشريعية، فيجب أن تعرض على المجلس في أول جلسة يعقدها، حسب المادة 71، ما يمنح المجلس حق مناقشتها وإقرارها أو تعديلها أو إلغائها.
الإجراءات الكويتية ليست غريبة على النظم البرلمانية، التي يحق فيها لرئيس الدولة أن يحل البرلمان عند الضرورة، باستثناء النظام العراقي الذي لا يمنح الرئيس أو رئيس الوزراء حق حل البرلمان. أي أن البرلمان وحده يمتلك هذا الحق، وهذا من عيوب النظام العراقي، فكيف يُتوقع من هيئة أن تتخذ قرارا بحل نفسها؟ الرئيس أو الملك يتجنب في العادة حل البرلمان، إلا في الأزمات السياسية الخانقة، حينما تغيب الحلول، وتتوفر أسباب موضوعية للحل، تكون مقنعة لعموم الشعب.
الشعب الكويتي اعتاد على التمتع بالحقوق السياسية منذ تأسيس الدولة عام 1961، والفضل في ذلك، يعود للشيخ عبدالله المبارك الصباح، الذي أصر على تبني دستور عصري، بينما لم يكن مضطرا لذلك. وبعد مضي ستة عقود على الديمقراطية، لا يمكن توقُّع أن يتخلى الكويتيون عن الحقوق السياسية والشخصية التي تمتعوا بها خلال ستين عاما، بل ليس في مصلحة الدولة، أي دولة، أن يكون هناك تراجع أو تخلٍ عن الحقوق التي تمتع بها المواطنون سابقا، خصوصا في هذا العصر الذي تتجه فيه دول العالم نحو مزيد من اللبرالية والديمقراطية.
ولكن هناك مشكلة لا يمكن معالجتها إلا بتعديل الدستور، الذي أعلن عنه الأمير في خطابه الأخير، وحدد موعدا أقصى للتعديل لا يتجاوز 4 سنوات، وهي فترة طويلة. هذه المشكلة حصلت في دول عربية أخرى، منها العراق ولبنان وتونس ومصر، وتتلخص بالسماح لجماعات ماضوية، لا تؤمن بالديمقراطية ولا بالدولة العصرية أن تشارك في العملية السياسية. هذه الجماعات لا تؤمن بالتنوع، وحق الآخر في الاختلاف، بل تسعى إلى تقليص الحريات الشخصية، وإرغام الشعب على اتباع نمط حياة لا يصلح لهذا العصر، ولم يكن مقبولا حتى في العصور السحيقة.
الديمقراطية لا تقوم ابتداءً إلا إذا ترسخت اللبرالية في المجتمع، وضمِنتها القوانين المرعية، ولا تترعرع وتتطور إلا في ظل علمانية غير منقوصة، وانفتاح اقتصادي ومجتمعي منظم، وإطلاق الحريات العامة والخاصة وتنظيمها بقوانين يشرعها ممثلو الشعب. المشاركة في العملية الديمقراطية يجب أن تشترط عدم إقحام الدين في السياسة، ومن هنا فهي تستثني بالضرورة، مشاركة الجماعات التي تتبنى العنصرية أو التمييز على أساس الرأي أو المعتقد أو العرق، أو تلك التي تستخدم الدين سُلّما للوصول إلى السلطة، ثم تتمسك بها عبر القسر والقمع.
هذه الجماعات تسعى لخطف الدولة والاستيلاء عليها باسم الحاكمية الإلهية، ثم استخدام السلطة، سواء التنفيذية أو التشريعية، لقمع المجتمع والعودة بالدولة العصرية القهقرى. في تونس اضطر الرئيس المنتخب قيس سعيد لأن يتصدى لحل المشكلة عبر حل البرلمان وتعديل الدستور كي يمنع وصول هذه الجماعات غير الديمقراطية إلى السلطة. في مصر اضطر الجيش لتسلم السلطة مرة أخرى وتعديل الدستور واستعادة الدولة. أما العراق ولبنان فمازالا يعانيان بسبب وجود قوى مسلحة تحمي الجماعات الماضوية المناهضة للديمقراطية. لكن هذا الوضع غير قابل للاستمرار، لأنه يصنع البيئة الملائمة لاجتثاثه، فأساليب القمع والقسر والتعسف تقود في النهاية إلى اقتلاع ممارسيها.
الدستور الكويتي دستور تقدمي حينما كتب عام 1961 ووقعه الأمير الراحل عبدالله المبارك الصباح في 11 نوفمبر عام 1962. المادة 30 تضمن الحرية الشخصية والمادة 35 تضمن حرية المعتقد، والمادة 36 تضمن حرية التعبير والمادة 43 تضمن حق تشكيل النقابات والجمعيات، والمادة 44 تضمن حق التجمع والمادة 46 تمنع تسفير اللاجئين السياسيين.
لكن الدستور بحاجة إلى تعديل كي يواكب العصر، فهناك مواد تجاوزها الزمن. على سبيل المثال لا الحصر، المادة 39 تتحدث عن حرية الاتصالات عبر البريد والتلغراف والهاتف فحسب، بينما توجد الآن وسائل كثيرة أخرى للاتصال.
المادة 4 تبين أسس اختيار ولي العهد، وهي تشترط موافقة مجلس الأمة على أحد ثلاثة مرشحين يسميهم الأمير، ويجب أن يكونوا من ذرية الأمير عبدالله المبارك، وأن يتولى ولي العهد منصبه خلال عام من تولي الامير الجديد مقاليد الأمور. وهذا يعني عمليا أن أمير الكويت ينتخبه ممثلو الشعب. هذا الشرط غير معمول به حتى في الملكيات الدستورية الأوروبية، التي يعيِّن فيها الملك ولي عهده، أو أن هناك تقليدا متبعا، يقضي بأن يخلف الملك ابنه الأكبر مباشرة.
أمير الكويت قال في خطابه الأخير إن البعض يريد أن يتدخل حتى في تعيين ولي العهد، وهو من صلاحيات الأمير، لكن الدستور يبيح للنواب التدخل واختيار ولي العهد والموافقة عليه. كل الدساتير تحتاج إلى مراجعة، وإلا فإنها تصير عائقا أمام تقدم الدولة والمجتمع. لكن التعديل يمكن أن يجرى خلال أربعة أشهر وليس أربع سنوات. المادة 4 تحديدا لابد أن تعدل بحيث تعطي الأمير حق تعيين ولي العهد دون العودة إلى المجلس، كما يحصل في الأنظمة الملكية الأخرى.
استقرار الدولة يتعزز بتطوير الديمقراطية، وهذا يتطلب عدم السماح لمن لا يؤمنون بها أن يعرقلوها باستغلال مواد الدستور المرنة، لتمرير أجنداتهم البعيدة عن الديمقراطية. وفي الوقت نفسه، من الضروري أن يوسع الدستور المقبل الحريات العامة، ويضمن مشاركة المرأة، عبر وضع مادة تشترط وجود نسبة معينة للنساء في مجلس الأمة.
حميد الكفائي
https://www.annaharar.com/makalat/opinions/220477/%D9%83%D9%8A-%D9%84%D8%A7-%D8%AA%D8%AA%D8%AD%D9%88%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%85%D9%88%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B7%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%88%D9%8A%D8%AA%D9%8A%D8%A9-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%B9%D8%A8-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9