مجموعة بريكس: تحالف استراتيجي أم منتدى للحوار؟

زعماء بريكس في جوهانسبيرغ العام الماضي: لولا، شي، رامافوزا، مودي ولافروف. بوتن لم يحضر بسبب خشيته من الاعتقال 


 

كل عام تطل علينا قمة بريكس باستعراض سياسي لقادة دول غير متجانسة، وبعضها متصارع، ويخرج علينا محللون يريدون إقناعنا بأن هذا التجمع “الواعد” يضم 45% من سكان العالم و28% من الناتج الإجمالي العالمي، وسيكون مؤثرا في قابل الأيام، منافسا التحالف الغربي ومتفوقا عليه، وأن على الدول النامية أن تسارع للانضواء تحت لوائه قبل فوات الأوان!

لكن الحقيقة مختلفة تماما. فبين الدول الثلاث الكبرى المؤسسة لبريكس، وهي الصين وروسيا والهند، ما صنع الحداد. فالهند والصين تحشدان جيشيهما على الحدود، وقد اشتبكتا عام 2020 في حرب سقط فيها قتلى وجرحى، ولم تتفقا على حل الخلاف الحدودي إلا مؤقتا، يوم 21 أكتوبر، أي عشية مؤتمر بريكس الأخير في كازان الروسية.

الرئيس الصيني، شي جينبينغ، لم يحضر مؤتمر بريكس لعام 2022 لأنه لم يكن راغبا في إنجاحه كي لا يُسجَّل النجاح لغريمه، رئيس الوزراء الهندي، نارندرا مودي. بينما لم يتمكن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتن، من حضور مؤتمر بريكس لعام 2023 في جوهانزبيرغ، لأن جنوب أفريقيا أبلغته بأنها ملزمة باعتقاله إن هو حط في أراضيها، لأنها عضو في المحكمة الجنائية الدولية، التي أصدرت مذكرة اعتقال بحقه عقب غزوه أوكرانيا.

روسيا، التي استضافت مؤتمر بريكس الأخير، منخرطة في حرب استنزاف على أوكرانيا منذ شباط 2022، وهذه الحرب، لم تستنزِف أوكرانيا، التي تحصل على مساعدات مالية وعسكرية هائلة من أمريكا وأوروبا، وإنما تستنزف روسيا وقدراتها المالية التي كان يمكن أن تُستثمر في التطوير والتنمية الاقتصادية.

وبدلا من ذلك، تتعرض روسيا لعقوبات دولية غير مسبوقة، بسبب غزوها دولة مستقلة دونما سبب، سوى الأطماع الإمبراطورية لرئيسها (المنتخب) للمرة السادسة، فصارت تستورد السلاح من إيران وكوريا الشمالية، التي لم تكتفِ بذلك، بل أرسلت لها عشرة آلاف جندي، ما جعلها مشتركة في الحرب، وهو تطور ستكون له عواقب خطيرة.

 
الدول الأخرى المنْضَمَّة إلى التجمع، مثل إيران ومصر وإثيوبيا، لديها مشاكل مختلفة. إثيوبيا ومصر لديهما خلافات عميقة حول مياه نهر النيل، التي أخذت إثيوبيا تستغلها للزراعة وتوليد الطاقة على حساب مصر، وقد ساءت العلاقة بين البلدين، ولم يتوصلا حتى الآن إلى اتفاق، بل هناك الآن قوات مصرية في الصومال، ما يعني أن الحرب بينهما محتملة الوقوع.

أما إيران فتتعرض لعقوبات أمريكية وغربية واسعة النطاق، وتنخرط في حرب بالوكالة مع دول عديدة، ثم دخلت في مناوشات عسكرية مع إسرائيل هذا العام، رغم أنها تحاول جاهدة أن تتجنب الانخراط في حرب شاملة قد تنتهي بانهيار نظامها السياسي أو تغييره، وهي الآن في وضع خطير سيضطرها لإيقاف حروبها بالوكالة على الدول الأخرى.

بعض دول بريكس الكبار، كالصين وروسيا وإيران، منغلقة سياسيا، بل تخشى الانفتاح الكامل على العالم، لأنه يهدد أنظمتها السياسية واقتصاداتها الموجهة. المشترك الوحيد بينها، على ما يبدو، أنها تناهض الهيمنة الاقتصادية والمالية الأمريكية، وتسعى لتشكيل تجمع اقتصادي ونظام مالي جديد. ولكن هل هذا ممكن بوجود خلافات عميقة وتناقضات صارخة بينها؟

أكبر دول بريكس ومحركها الأساس، وهي الصين، التي تعتبر الاقتصاد الثاني عالميا بعد أمريكا، قد حققت تقدمها الاقتصادي بسبب انفتاحها على أمريكا وأوروبا خلال العقود الثلاثة الماضية، لكن طموحها في التوسع الاقتصادي، غير المصحوب بانفتاح سياسي، كان الغربيون، خصوصا الأمريكيين، يأملون به، إضافة إلى اصطفافها مع روسيا وكوريا الشمالية وإيران، قد دفعهم لاستهدافها والحد من توسعها الاقتصادي على حسابهم.

الاقتصاد الصيني بدأ يتراجع، والنمو الاقتصادي فيها آخذ في التباطؤ، والغربيون بدأوا يبتعدون عن الاعتماد على السلع الصينية، وأخذوا يستثمرون وطنيا في المجالات التي مكَّنت الصين من التوسع الاقتصادي. النظام السياسي الصيني، الذي بدأ ينفتح قليلا في عهد الرؤساء دينغ زياو بينغ، وجيان زمين، وهو جينتاو، آخذ في الانغلاق منذ أن تولى الرئيس شي جينبينغ السلطة. السلطات الصينية الآن تتدخل حتى في البيانات الاقتصادية، الأمر الذي انعكس سلبا على نموذجها الاقتصادي، الذي يعتمد على حرية المعلومات وحركة الأموال.

أسست بريكس بنكا مستقلا عام 2014، هو “بنك التنمية الجديد”، بتمويل معظمه صيني، لكنه لم يتقدم كثيرا في ظل الجمود الذي تعانيه هذه المجموعة غير المتجانسة. كما حاولت أن تتبنى عملة مستقلة للتبادل التجاري بين أعضائها، ولكن دون جدوى، فدول بريكس لم تستطع التخلص من مخاوفها وشكوكها ببعضها البعض، أو حل خلافاتها العميقة التي قادت بعضها إلى الحرب. إن كانت دول بريكس لا تسمح بحركة الأموال أو تقديم المعلومات الصحيحة وتعويم عملاتها، فكيف يمكن دول العالم الأخرى أن تثق بها وتتعامل معها ككتلة متجانسة؟

في المقابل، الاقتصادات الغربية الرأسمالية منفتحة على بعضها وعلى العالم، وعملاتها موثوقة ومُعَوَّمة، والتعاملات المالية العالمية تجري بها بنسبة 95%، حوالي 60% منها بالدولار، و20% باليورو، و6% بالين و5% بالجنيه الإسترليني و(3%) بالدولار الكندي و(2%) بالدولار الأسترالي. أما التعاملات العالمية بالعملة الصينية، (رنمينبي)، فلا تتجاوز 2%.

كما أن الدول الغربية منسجمة اقتصاديا وسياسيا، وكلها أنظمة ديمقراطية تتغير حكوماتها باستمرار، ولا يبقى الزعيم في المنصب أكثر من عشر سنوات. بينما الرئيس الروسي، مثلا، يشغل الموقع الأول منذ عام 1999، ولا يعتزم مغادرة المنصب حتى عام 2033 حسب الدستور، الذي عُدِّل في العام الماضي كي يتماشى مع رغبته. الرئيس الصيني هو الآخر عدَّل الدستور كي يسمح له بالبقاء في السلطة مدى الحياة.

بريكس، إذن، ليست سوى منتدى للحوار وتبادل الآراء بين دول مختلفة، وهذا أمر إيجابي دون شك، إن كان الحوار جديا وليس استعراضيا، وكل الدول التي حضرت مؤتمر كازان لم تكن تطمح بأكثر من هذا. لا يمكن هذه المجموعة أن تتقدم لأنها غير متجانسة، وإن توسعت أكثر فإن عدم التجانس سوف يشتد أكثر. بعض أعضائها، كإيران وروسيا، معاقب دوليا ولا يستطيع أن يتفاعل مع دول العالم دون إجراء إصلاحات سياسية حقيقية. الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا غير منسجمة مع الصين وروسيا، وهي تعارض الكثير من مواقفهما.

لا شك أن شعوب العالم تأمل بعالم متعدد الأقطاب، تغيب فيه الهيمنة لدولة واحدة أو كتلة محددة، كي يكون مستقرا وآمنا ومزدهرا، لكن هذا الأمل الرفيع لن تحققه مجموعة بريكس، التي انبثقت فكرتها من دراسة أجراها بنك غولدمان ساكس الأمريكي، أشرف عليها كبير الاقتصاديين في البنك، جيمز أونيل، الذي أطلق عليها اسم “بريك”، ناحتاً إياه من الأحرف الأولى لكل من البرازيل وروسيا والهند والصين، قبل أن تنضم جنوب أفريقيا، وحينها أضيفت السين إلى الاسم. كان أونيل يتوقع النجاح لهذه الدول، ولكن بشروط لم تفِ حتى الآن بأي منها!

لا يمكن أي تكتل أن يكون نافعا ومؤثرا إن لم يكن أعضاؤه منسجمين، ولديهم أهداف مشتركة قابلة للتحقيق، وعازمين على تحقيقها. الرغبات والطموحات جميلة، لكنها تحتاج إلى عمل جماعي منسق وخطط مدروسة وتضحيات كبيرة تتضمن انسجاما سياسيا وتوجها اقتصاديا مشتركا، وكل هذا غير متوفر في تجمع بريكس حاليا، ولا يُتوقَّع له أن يتحقق في المستقبل القريب. 

حميد الكفائي