كي لا نقرأ كتاب الثورة السورية من عنوانه!
إبراهيم أحمد
كثيرون يقرأون الكتاب من عنوانه! أتذكر كنا في مطلع شبابنا في بغداد نتندر عليهم؛ يمرون على أرصفة الكتب يحفظون بعض العناوين ويجلسون معنا في المقهى يتحدثون عنها سلبا أو إيجابا كما لو أنهم قرأوها وبكل إمعان وفهم. واليوم كثيرون حكموا على كتاب الثورة السورية من عنوانه، أو من اسم الرجل البارز في قيادتها محمد الجولاني، فبما أنه كان في تنظيم القاعدة وبما أنه إسلامي البداية والمنحى والتطور الحالي (المجهول إلى أي حد) ؛ فالثورة السورية هي أيضا “قاعدة” وهي إسلامية متعصبة متطرفة إرهابية وستمضي لتكون دولة ظلامية يتعطل فيها التجديد والعلم ويفرض فيها الحجاب على المرأة والثياب القصيرة واللحى الطويلة على الرجال.
 
بعض ممن يتحدث هكذا هم حسنو النية، قلقون بصدق على مصير سوريا وشعبها ولديهم تجارب فكرية أو حياتية مع ممارسات التنظيمات الدينية، وبعضهم متعجلون بطبعهم في الأحكام إدانة وتبرئة،وثمة من هم ليسو متعجلين بل بنية تسفيهها وإسقاطها لدوافع شتى؛ تتعلق بمصالح ومنافع خاصة أو لنزعة طائفية أو قومية فهؤلاء يؤكدون أن سوريا ستكون أفغانستان أخرى (ولا يشبهونها بإيران وهي إسلامية أيضا ) وإنها لم تعد علمانية وإن المرأة فيها ستضطهد وتفقد حقوقها. يتحدثون بهذا وكأنهم من بلد علماني ديمقراطي تقدمي غير طائفي، ولا يزيف الانتخابات، المرأة فيه ليست محجبة ولا يتهددها قانون لزواج القاصرات) والأغرب أن بعضهم يساريون تقدميون، ولكن من المؤسف أن الرسيس الطائفي غالب لديهم!
 
يتعالى اللغط والضجيج كله حول الجولاني وتنظيمه سابقا في القاعدة والنصرة ثم هيئة تحرير الشام وكأنه هو الثورة السورية كلها! متناسين أو متجاهلين أن الثورة السورية أكبر من الجولاني وتنظيمه وحتى جيشه أن كان جرارا أو مجروراً!
 
الثورة السورية كانت ولا تزال جيشاناً وهبة كبرى اعتملت وتفجرت من وجدان حوالي 22 مليون سوري وقع عليهم الظلم من عائلة الأسد لعقود طويلة احتشد حولها انتهازيون ومنتفعون وأصحاب مصالح دولية ادعت أنها جاءت من اجل التحرير والبناء ثم هادنت إسرائيل لنصف قرن لم تطلق عليها رصاصة واحدة ( ثمة من يتحدث عن صفقة معها بوثائق استلم فيها الأسد رشوة هائلة) ثم لم تقدم للشعب السوري شيئا من خيرات بلاده الكثيرة وكدحه وصبره سوى الجوع والقهر والسجون والمعتقلات والأكاذيب وتماثيل الجد والأب والحفيد. هذه الثورة ليست “جولانية” ضيقة بل سورية واسعة رحيبة فهي بركان تاريخي هائل يمكن لمصهوره وحممه أن يجرف كل من يحاول كبحه أو قولبته أو احتوائه حتى الجولاني نفسه!
 
والشعب السوري عرف ومنذ عهد بعيد بثوراته وانتفاضاته وانقلاباته الكثيرة وسواء كان ذلك قد نفعه أو ضره فأنه أظهر حيويته وإحساسه بكرامته وسمو طموحه وأحلامه!
 
لا أدعو للثقة بالجولاني (الشرع ) وتعليق الآمال عليه وإنه سيكون القائد الديمقراطي الوطني وباني مستقبل سوريا، لا أبدا! فذلك كله متروك للأيام القادمة وعليه أن يقدم يوما بعد آخر ما يدل على تطوره ونبذه لإرث تنظيمه القديم، إنما أدعو لأن تقرأ الثورة السورية وتستقبل بمجملها كناتج تاريخي كبير لمظالم عميقة مدمرة ولنضالات وتفاعلات ومآثر سابقة طويلة شارك في صنعها الملايين من الشعب السوري، وإنها قابلة للتطور والنجاح مثلما هي قابلة للنكوص والتراجع أو السقوط، ولكن الأمل بنجاحها أكبر فالسوريون كانوا قد هبوا قبل 13 عشر عاما وقدموا مئات الآلاف من الشهداء والمغيبين وكادت ثورتهم تنتصر لولا تدخلات إيرانية روسية ودولية أخرى معروفة تصدت لها فخابت في جولاتها الأولى وهجر البلاد ما يقرب من نصف الشعب وتشتت في المنافي. ولكن الجميع في الداخل والخارج ظلوا على إصرارهم وعزيمتهم حتى انتصروا اليوم، وهم على طريق استكمال الثورة وإنجاز مهامها الوطنية الآنية والقادمة.
 
المعروف عن الثورات أنها لا تقف عند واجهتها وشعاراتها الأولى كما لا تقف عند رجالها الأوائل فهي كما قيل ” قطة تأكل أبناءها” وفي حالة حركة وجدل وتبدل وتطور دائم وكم من ثورة بدأت تقدمية ديمقراطية “اشتراكية” ثم انتهت مستبدة رجعية ظالمة.
 
وكم من ثورة بدأت محافظة رجعية ثم انتهت تقدمية ديمقراطية حرة بناءة. والأمثلة كثيرة ولكن يكفي أن أشير أن حافظ الأسد في انقلابه عام 1970 على أولياء نعمته صلاح جديد ومحمد عمران وغيرهما أدعى أنه سيحقق الاشتراكية والوحدة والحرية وسيحرر فلسطين وما جاورها فوضع رفاقه وأصدقاءه في السجن لسنوات طويلة (اغتال اللواء محمد عمران في بيروت، وألقى اللواء صلاح جديد في السجن 23 سنة حتى أخرجوه جثة) ثم انتهى الأسد إلى دكتاتور طائفي متحجر لم يحقق لا وحدة ولا اشتراكية ولا حرية ولم ينقل سوريا إلى الحداثة كما ادعى بل إلى مزيد من العزلة والانكفاء حتى أضحى الإنسان السوري جائعا مقهورا مغيبا، والليرة السورية على عهده وعهد أبنائه أقل قيمة من ورق أشجار الخريف على الأرصفة! وجيش التحرير انتهى إلى جيش التخدير يصنع الكبتاغون في ثكناته ليسمم به السوريين والأمة العربية ويجني ملايين الدولارات لحساب ماهر الأسد.
 
سوف لن يكون طريق الثورة سهلا معبدا، ستواجه ضغوطا شديدة ومؤامرات واغتيالات لبعض قادتها،فالقوى التي خلعت والدول التي ارتبطت بها لن ترفع راية الاستسلام حقيقة وإن بدا بعضها قد ركب موجة الثورة وصار ثوريا أكثر من قادتها وهو الذي في الأمس القريب يكسر عظامها وينهش لحمها. والاعتداءات الإسرائيلية الكبيرة اليومية ستربكها وتبدد طاقاتها، وكل ذلك سيؤثر سلبا على مسار الثورة والنهج الذي ستستقر عليه!
 
إذا أراد قادة الفصائل المسلحة المسيطرة على الثورة الآن فرض النموذج الإسلامي الطالباني ، أو الأخواني وفق مواصفات سيد قطب للدولة الإسلامية مستبدلا التزمت الشيعي بالتزمت السني فأنهم سيصطدمون بكتلة كبيرة من المجتمع السوري ممثلة بسنة المدن والعلويين والمسيحيين والدروز وغيرهم وبصرح ثقافي كبير أشاده الشعب السوري لعقود طويلة رغم نكباته مع الأسديين وبعثييهم. (نشير إلى كتاب بشر بالنهضة السورية والعربية “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” لعبد الرحمن الكواكبي أواخر القرن التاسع عشر) إضافة لمحيطهم العربي والدولي، وسيقاومون هذا النهج ويسقطونه وإن بحلقة ثورية أخرى، لذا فقد يميل الجولاني ورهطه إلى النموذج الإسلامي الأردوكاني بحكم علاقاته الوثيقة بأردوكان وهو نموذج معدل عن الأخواني شديد التزمت ومجرب في تركيا ومقبول عالميا إلى حد ما. لكنه سيظل دون طموح الكثير من الأحرار في مختلف شرائح المجتمع.
 
وقد يبقى الجولاني منفتحا على القوى الأخرى وهي كبيرة وقد ضحت كثيرا وحرصت أن تعطي للثورة السورية وجها ديمقراطيا وحضاريا لكنه سيصعب عليه بحكم تكوينه الفكري والنفسي أن يصل معها إلى الأخذ بنموذج ديمقراطي علماني حر. وهنا ستنشأ صدامات وصراعات قد تأخذ طابعا دمويا. وهذا لا يدعو إلى اليأس تماماً فستظل حركة الثورة في حالة صيرورة وتبلور حتى ترسو على حالة وطنية ديمقراطية تنسجم مع جوهر العصر وتليق بالشعب السوري وتاريخه الحضاري وطلائعه المثقفة الكثيرة والعريقة!