الحياة اللندنية- الخميس, 11 فبراير 2010
من يراقب الحملة التي تشنها الأحزاب الدينية في العراق هذه الأيام للتحذير من «عودة البعث» يشعر بأن البعث قد أصبح قاب قوسين أو أدنى من العودة إلى الحكم، وليس ذلك الحزب الذي انتهى سياسياً ومعنوياً منذ أواسط السبعينيات وعملياً في 9 نيسان (ابريل) 2003 وتفرق أعضاؤه وفرح معظمهم بأن «حكمهم» قد ولى إلى غير رجعة. واللافت في هذه الحملة أنها تحذر من عودة البعث «عبر الانتخابات»، أي عبر تصويت الناخبين لأعضائه!
من يراقب الحملة التي تشنها الأحزاب الدينية في العراق هذه الأيام للتحذير من «عودة البعث» يشعر بأن البعث قد أصبح قاب قوسين أو أدنى من العودة إلى الحكم، وليس ذلك الحزب الذي انتهى سياسياً ومعنوياً منذ أواسط السبعينيات وعملياً في 9 نيسان (ابريل) 2003 وتفرق أعضاؤه وفرح معظمهم بأن «حكمهم» قد ولى إلى غير رجعة. واللافت في هذه الحملة أنها تحذر من عودة البعث «عبر الانتخابات»، أي عبر تصويت الناخبين لأعضائه!
لقد تضمنت هذه الحملة «التحذيرية» توزيع أشرطة قديمة لجرائم بشعة قام بها مجرمون محترفون من «فدائيي صدام» تظهِرهم يقطعون رؤوس معارضيهم ويحملون الرؤوس على الأسنة، تماماً كما كانت بعض القبائل البدائية تفعل بخصومها في الأزمنة الغابرة. كما تضمنت هذه الحملة أساليب أخرى منها حشد التظاهرات المعارضة لـ «عودة البعث» وإطلاق حملات دعائية مضلِلة تدّعي أن بعض الخصوم السياسيين يروجون للبعث! بالطبع الأحزاب الدينية ترى أن هذه الحملة مفيدة لها وتساعد على إبقائها في السلطة، خصوصاً أنها تذكِّر بإرهاب النظام السابق وتنشر الأشرطة والصور المرعبة لإخافة الناخبين ودفعهم للتصويت لها باعتبار أن الخيار المتاح أمامهم هو إما الأحزاب الدينية التي تحكم العراق منذ خمس سنوات أو حزب البعث الذي حكم البلاد قبلها، وبالتأكيد فإن الناخب لن يختار البعث. لكن المحزن للديموقراطيين أن هذه الحملة ترافقها حملة إقصاء لكل من يشكل خطراً انتخابياً يعيق عودة الأحزاب الدينية إلى السلطة!
لكن الحقيقة أبعدُ من ذلك بكثير، فالانتخابات المقبلة تقدم خيارات أخرى للناخب العراقي، ليس بينها البعث، لأنه محظور دستورياً ومرفوض شعبياً، حتى من معظم الذين انتموا إليه في فترة ما، وإن حملة التخويف المحمومة من البعث والجارية منذ بضعة أشهر إنما تهدف في حقيقتها إلى تضليل الناخبين حول احتمال عودته إلى السلطة كي «يستجيروا من الرمضاء بالنار». رئيس الوزراء نوري المالكي نفسه قال مرات عدة إن عودة البعث مستحيلة، وهذه بديهية.
إذاً هذه الحملة تهدف إلى خلط الأوراق وحمل الناخبين على التصويت لقوائم الأحزاب الدينية الشيعية، هؤلاء الناخبون الذين قرر كثيرون منهم عدم التصويت لهذه الأحزاب بسبب فشلها في إدارة العراق خلال السنوات الخمس الماضية وتأجيجها للاختلافات المذهبية بين المواطنين وتسببِها، مع غيرها، في إشعال حرب طائفية دامت ثلاثة أعوام.
وكما إن العراقيين لن ينسوا الجرائم التي ارتُكبت في عهد النظام السابق، فإنهم لن ينسوا الجرائم التي ارتُكبت لاحقاً، من قتل واختطاف واختلاس وسرقة، ويصرّون على ملاحقة مرتكبيها ومعاقبتهم. وكما إن من الحق والواجب أن يتحمل حزب البعث مسؤولية ما جرى خلال فترة حكمه، من جرائم ضد المواطنين وحروب عبثية غير مبررة ضد الجيران واعتداءات صارخة على الحريات الأساسية والمال العام، فإن الأحزاب الحاكمة حالياً تتحمل هي الأخرى قسطاً كبيراً من المسؤولية عما جرى من جرائم وحرب طائفية، وهي مسؤولة بالكامل عما شـاب فتـرة حكمها، التي امتدت خمس سنوات، من سرقات وفشل حكومي.
لا يمكن للذاكرة العراقية أن تنسى الأحداث القريبة التي لا تزال آثارها شاخصة، ولا يزال فاعلوها يطرحون أنفسهم قادة للعراق، بينما تتذكر جرائم حكم البعث الذي انتهى عملياً منذ سبع سنوات، غير مأسوف عليه، وحوكم وسجن أو أعدم معظم رموزه.
أما ما تقوم به «هيئة العدالة والمساءلة» من إبعاد لبعض الشخصيات والقوى السياسية تحت ذريعة «الانتماء» أو «الترويج» لحزب البعث، إنما يخدم، في رأيي، حزب البعث في الدرجة الأولى لأن إجراءاتها تعيق العملية السياسية وهي بذلك تتطابق مع أهداف حزب البعث. كما أنه ليس هناك بين المشاركين في العملية السيـاسيـة من يـريـد عـودة البـعث أو يـروج له، وإن عـبَّر البعض عن رأي فُهِم منه الترويج، فإنـه يـدخل ضمن حريـة الرأي المتاحة للجميع في النظام الديموقراطي.
وعلى رغم كل ما قيل في هذه الهيئة، من أنها غير قانونية أو غير دستورية أو العكس، فإن حقيقة وجود سياسيين مرشحين في الانتخابات المقبلة في إدارتها، كالدكتور أحمد الجلبي، رئيس الهيئة، وعلي فيصل اللامي، المدير التنفيذي للهيئة، يخِل بمهنيتها ويجعل قراراتها غير حيادية في أقل تقدير، وسياسية إقصائية بامتياز، ولا يمكن أي هيئة قضائية ملتزمة بالقانون والعدالة أن تقبل بقرارت تصدر من هيئة كهذه. القضاء العراقي أمام اختبار حقيقي وعليه أن ينظر بجدية في مدى قانونية الجمع بين العمل السياسي، كمرشح انتخابي عن أحد الأحزاب، وشغل منصب تنفيذي في هيئة مستقلة، يُمكِّن شاغلُه من إبعاد خصومه السياسيين عن منافسته. هذا الجمع بين موقعين متناقضين غير جائز إطلاقاً بل ويعتبر مخالفة قانونية كبيرة يحاسب عليه القانون في البلدان الأخرى.
هناك خيارات حقيقية أمام الناخب العراقي في الانتخابات المقبلة، ليست مقتصرة على الأحزاب الدينية، وأول هذه الخيارات هي «القائمة العراقية الوطنية» بزعامة رئيس الوزراء الأسبق أياد علاوي، التي تضم بين صفوفها طيفاً واسعاً من الاتجاهات والرؤى والتيارات السياسية العراقية العابرة للحدود الطائفية والقومية والمناطقية. هذه القائمة تقدم أملاً للعراقيين بالخلاص من التخندق الطائفي والقومي والمناطقي وحالة الاحتراب السياسي التي يصر بعض القادة السياسيين على إدخال العراق في أتونها من أجل البقاء في الساحة بأي ثمن. وهناك أيضاً «قائمة وحدة العراق» بزعامة وزير الداخلية جواد البولاني، التي تضم هي الأخرى بين صفوفها طيفاً واسعاً من العراقيين الذين اصطفوا على أسس سياسية وليست طائفية أو قومية.
وهناك أيضاً قوائم غير طائفية أخرى. وإذا ما تحالفت هذه القوائم بعد الانتخابات فإنها قادرة على تشكيل الحكومة المقبلة. لكنها في حاجة الى أن تعمل بجد ومثابرة على إيصال أفكارها إلى الناخبين العراقيين، الذين سيخضعون لحملة انتخابية مكثفة تستخدم فيها كل الأسلحة، بما فيها الممنوعة قانوناً، كالرموز الدينية والتضليل وتشويه السمعة. وعلى رغم أن المرجعية الدينية عبّرت مراراً عن حياديتها ورغبتها في أن تكون بعيدة من الانتخابات، إلا أنها رغم ذلك ستُزج في الحملة الانتخابية على الأرجح، لذلك فإن وكلاءها مطالبون بالحذر ومراقبة الحملة الانتخابية كي لا يُستخدَم اسم المرجعية الدينية مرة أخرى لأغراض انتخابية.
إن الدستور العراقي الذي يحظر على «البعث الصدامي» العمل السياسي، يحظر أيضاً أي عمل يحرض على العنف وإثارة الكراهية والطائفية بين الناس ويتعمد تضليلَهم لأهداف انتخابية، فهذا، تماماً كالبعث الصدامي، لا يمكن أن يكون ضمن التعددية السياسية في العراق.