نشر بالإنجليزية في صحيفة الغارديان البريطانية بتاريخ 14/7/2003
ونشرت ترجمته العربية في صحيفة الزمان في 21/7/2003
قررتُ العودة إلى بغداد بعد غياب دام ما يقارب الثلاثة وعشرين عاما. لكنني لست عائدا هذه المرة كي أكون عضوا في مجلس الحكم الذي أعلنه بول بريمر، أو عضوا في مجلس بلدية بغداد، بل ليس عضوا حتى في مجلس بلدية الوركاء، التي اكتُشفَت فيها الكتابة قبل أكثر من خمسة آلاف عام، والتي لا تبعد عن مسقط رأسي سوى عشرة أميال.
كذلك فإنني لستُ عائدا كي أفي بالتزام قطعته على نفسي على شاشة تلفزيون البي بي سي في شهر آذار من هذا العام (2003) بأنني “أتطلع إلى السباحة في نهر الفرات هذا الصيف”، لأن بغداد لا تقع على الفرات بل على دجلة الذي لم أسبح به يوما.
إنني عائد بمهمة مختلفة هذه المرة، وهي محاولة الحصول على التأييد الشعبي والرسمي لمشروع قانون مقترح للإعلام الحر في العراق، وإطار تنظيمي يساعد على خلق بيئة مواتية لقيام إعلام مستقل وتعددي في البلد الذي ولدت فيه.
لقد حصلت نقلة نوعية هائلة في الإعلام العراقي منذ التاسع من أبريل/نيسان الماضي، فتحول من ماكنة دعائية منضبطة وظيفتها الأولى والأخيرة التطبيل لصدام وعائلته، إلى أكثر وسائل الإعلام حرية في العالم، حيث يتمكن كل من يمتلك مالا أن يفتح جريدة أو محطة إذاعة أو تلفزيون ويقول ما يشاء تقريبا. في هذه الفوضى الإعلامية، وبوجود وسائل إعلام عملاقة كقناة الجزيرة القطرية و”أبو ظبي” الإماراتية و”العالم” الإيرانية و”العربية” السعودية، فإن هناك غيابا واضحا لوسائل إعلام عراقية تكون مهمتها تقديم الإعلام إلى الشعب العراقي دون أن تكون لها أجندة حزبية أو دينية.
خلال الأشهر القليلة الماضية كنت أعمل مع فريق من الخبراء الإعلاميين والقانونيين من مختلف أنحاء العالم، في جهد تطوعي نظمته منظمة إنترنيوز العالمية، التي تمتلك خبرة واسعة في تطوير أنظمة إعلامية في البلدان المتحولة من الديكتاتورية إلى الديمقراطية. وهدف هذا الجهد هو تطوير نظام إعلامي عراقي يتماشى مع المعايير السائدة في العالم المتقدم، ويتفق مع التحول الديمقراطي الذي نأمل جميعا أنه سوف يحدث في العراق.
وقد تتوج هذا الجهد في انعقاد المؤتمر العالمي حول الإعلام الحر في العراق الذي عقد في أثينا في مطلع يونيو / حزيران الماضي، الذي تبنى فيه خمسة وسبعون خبيرا إعلاميا وصحفيا وقانونيا وثيقة تسعى إلى بسط نوع من النظام في الساحة الإعلامية العراقية.
وسوف يتحقق ذلك عن طريق إنشاء مفوضية الإعلام المؤقتة، وهي هيئة عليا وظيفتها تنمية الإعلام الحر وتشجيع التدريب والمهنية والمساعدة على فهم المسؤوليات الجديدة والجمة التي تضطلع بها وسائل الإعلام الحرة. وسوف يتولى إدارة المفوضية مجلس من الإداريين مكون من أغلبية عراقية لكنه أيضا يضم أعضاء دوليين من ذوي السمعة الطيبة والمهنية العالية.
وسوف تؤكد المفوضية على إيلاء أعلى درجات الأهمية والأولوية لحرية التعبير، كما تشترط على وسائل الإعلام أن تتبع المواثيق الدولية حول حقوق الإنسان والحقوق المدنية وتطبق مبادئها.
يعتبر مؤتمر أثينا أول عملية متعددة الأطراف في مجال الإعمار في العراق منذ نهاية حرب الإطاحة بنظام صدام حسين. فقد جمع المؤتمر اليونانيين، الذين يتولون رئاسة الاتحاد الأوروبي، مع الأمريكيين وآخرين، كي يساهموا في جهد تعاوني مشترك. وتوصي وثيقة أثينا حول الإعلام في العراق بتأسيس “خدمة الإعلام الإذاعي والتلفزيوني العامة” التي تكرس جهودها لتقديم الخدمة الإعلامية للشعب العراقي، وستكون مستقلة عن الحكومة وعن أي نفوذ سياسي أو اجتماعي أو تجاري.
وفي حالة القبول في إطار العمل الذي تطرحه وثيقة أثينا، فإنه سيكون بإمكان كل عراقي له مظلمة أو شكوى ضد وسائل الإعلام أن يتقدم بها إلى مجلس شكاوى الإعلام، الذي سيضم عراقيين متخصصين في الإعلام ويمثلون مؤسسات المجتمع المدني. كما سيضم قانون الإعلام المؤقت فقرات تتعامل مع مخالفات التشهير والتحريض على العنف، وتفوِّض المفوضية أن تراقب كل المواد الإعلامية للتأكد من أنها تتماشى مع مبادئ الحيادية والعدالة والاتزان.
كما ستقوم المفوضية باتباع سياسة عدم فرض أي تراخيص على إصدار الصحف أو المجلات أو محتويات الإنترنت، أو على ممارسة مهنة الصحافة بالنسبة للأشخاص، وأن تكون كل قرارات المفوضية، ووثائقها علنية أمام الناس، وإذا ما وجد هناك استثناء فإنه لا بد أن يكون محددا بدقة. كما ستقوم المفوضية بتشجيع وتسهيل تأسيس خدمات الإنترنت الخاصة عبر عدد من المجهزين.
وبموجب قانون الإعلام المؤقت فإن على كل من يريد أن يؤسس لمحطة إرسال إذاعية أو تلفزيونية أن يحصل على ترخيص من المفوضية حتى لا يصبح المجال الإذاعي والتلفزيوني مزدحما وحتى لا تتعارض الموجات الإذاعية مع بعضها البعض، وحتى تتضح حقوق كل المحطات ولا تتجاوز على بعضها البعض.
من أجل هذه الأهداف، فإن الخطة تستعين بالتجارب الإعلامية العالمية، التي تكللت بالنجاح بفضل الجهود الدولية المشتركة، من أجل إيجاد البيئة الإعلامية والقانونية التي تساعد على قيام مشاريع إعلامية مستقلة وفي الوقت نفسه فإنها تدفع باتجاه أن ترتقي هذه المشاريع إلى أعلى المستويات المهنية.
إن الهدف النهائي من هذا الجهد هو تحقيق إعلام حر ومستقل وتعددي في العراق يمارس حرية التعبير ويشجعها ويحميها في مجتمع ديمقراطي. إنها مهمة مقدسة وحلم للشعب العراقي يجب أن يتحقق.
http://www.guardian.co.uk/media/2003/jul/14/mondaymediasection12?INTCMP=SRCH
http://www.azzaman.com/azzaman/ftp/articles/2003/07/07-21/698.htm