من نافلة القول أن أذكر هنا أن للإعلام دورا محوريا في أي قضية، إيجابيا كان أم سلبيا، لكن من المهم التأكيد منذ البدء أن الإعلام المستقل المحايد لا يهمه سوى نقل الحقيقة وإن كانت الحقيقة مرة فسوف ينقلها بمرارتها وعلينا أن نتجرعها، وإن كانت جميلة فسوف ينقلها بجمالها الرائع الذي يسر الناظرين.
لذلك علينا أن لا نتوقع من وسائل الإعلام المحايدة أن تتبنى أي قضية وطنية أو دينية أو قومية، أو أن تشعر بالمسئولية الوطنية أو القومية أو الدينية، لأن هذه الأمور لا تعنيها. الإعلام المحايد لا يقرر أين هي المصلحة الوطنية كي يقف معها، بل يترك القرار للمتلقي بعد أن يزوِّده بكل المعلومات المطلوبة والآراء المختلفة. هذه هي الحقيقة التي يجب أن يعرفها الجميع عن الإعلام.
وسائل الإعلام المحايدة تنقل ما يحدث على الساحة بأمانة. فإن كان هناك قتل طائفي أو تجاوزات تقوم بها أجهزة الدولة أو مليشيات تابعة لهذا الحزب أو ذاك، وإن كان هناك فساد مالي أو إداري، وتقصير حكومي في الخدمات والأداء، فتوقعوا من وسائل الإعلام أن تنقل ما تجده على الأرض. هناك بالتأكيد من يريد من وسائل الإعلام أن تغض النظر عن السلبيات، خصوصا من المسئولين في الدولة، لكن هذا يتعارض مع عملها الذي يقتضي أن تنقل كل جديد إلى المتلقين. علينا أن لا نتوقع من الإعلامي أن يقيِّم المصلحة الوطنية في كل خبر أو رأي ينقله، لأن مهمته ليست مراعاة المصلحة الوطنية أو القومية بل نقل ما يراه على الأرض فقط، بمهنية وحيادية قدر المستطاع. تماما كما يفعل الطبيب والمهندس والمدرس… فهم يؤدون عملهم وعلى الآخرين أن يقيِّموا إن كان في مصلحة البلد أم لا. لكن الجميع يعلم بأن مصلحة البلد تقتضي أن يطلع أبناء الشعب على ما يجري دون محاولة التغطية عليه من أي جهة.
المشكلة في العراق اليوم أن الحرية لوسائل الإعلام وللمواطن بدأت تتقلص بسبب الإرهاب والانفلات الأمني والمليشيات والتحزب المفرط والاحتقان الطائفي في الشارع العراقي. ليس بمقدور الكثيرين من الإعلاميين العاملين على الساحة العراقية أن ينتقدوا كل الشخصيات أو يراقبوا نشاطها خوفا من أن يتعرضوا للقتل. وهذا في الحقيقة يتنافى مع مبادئ حرية الإعلام التي ننادي بها والتي يفترض بأن الدستور قد ضمنها.
وفي هذا الإطار فإنني أشجع الحكومة وكافة المؤسسات العراقية الرسمية وغير الرسمية على دعم الإعلام المستقل بقوة وتشجيع النقد لأنه مفيد (فالنقد فعل للحب والصمت حكم بالموت كما قال الشاعر المكسيكي كارلوس فوينتس) و(صديقُك من صدقك لا من صدّقك كما يقول الحديث الشريف). نحن دائما نستفيد ممن يعطينا صورة حقيقية عن أوضاعنا لا ممن يجمّل لنا القبيح أو يقبّح لنا الجميل. علينا أن نعلم أننا لن نتقدم خطوة واحدة إلى الأمام دون وجود نقد موضوعي محايد ودون وجود وسائل إعلام مستقلة محايدة وشجاعة تعكس الصورة الحقيقية لما يحصل في مجتمعنا وتكشف لنا السلبيات حتى نتمكن من تصحيحها وإصلاحها. الحيادية تخدم المصالحة الوطنية لأنها تبرز الأحداث على حقيقتها وعندها فقط يتضح للناس العاديين من هو الذي يحاول زعزعة استقرار البلاد وبث الفرقة والفتنة بين أبنائها ومن الذي يسعى لخدمة الناس ويحرص على أمنهم وخدماتهم.
المشكلة في العراق هي غياب الإعلام الحر المستقل المحايد الذي ينقل الحقيقة، فمعظم وسائل الإعلام غير مستقل، فهي أما حزبية أو شخصية تتبنى وجهات نظر سياسية أو دينية أو طائفية أو قومية أو مناطقية محددة، ومن هنا فإن أيا منها يتبنى رأيا معينا يضعه أمام متلقيه ويحاول أن يدفع باتجاه قبوله كحقيقة. وفي أحيان كثيرة تسعى هذه وسائل (الإعلام) هذه إلى تحريف الأخبار أو على الأقل وضعها بطريقة معينة بهدف إقناع المتلقي بوجهة النظر التي تتبناها. هناك وسائل “إعلام”، (وهي في الحقيقة وسائل تضليل)، لا هم لها سوى التهويل واختلاق الأكاذيب حول خصومها وتوجيه أقذع الشتائم لهم وبث الشائعات دون حياء أو خجل ودون محاسبة قانونية، وبعض القائمين على وسائل (الإعلام) هذه مشاركون في الحكومة أو في العملية السياسية. يتوهم هؤلاء بأن مثل هذا الخطاب ينفعهم ولو تمعنوا قليلا في سلسلة الأحداث لرأوا أن الخطاب التحريضي ضد النظام الجديد قد عاد بالوبال ليس على أتباع النظام الجديد فحسب، بل على الجميع، بمن في ذلك أتباع ومؤيدو النظام السابق، وبالطبع أيضا المواطنون العراقيون العاديون الذين لا دخل لهم بالسياسة من قريب أو بعيد. هؤلاء المحرضون على الإرهاب ينسون أنهم يحرقون أنفسهم قبل غيرهم لأن نار الفتنة والإرهاب والعنف لا تستثني أحدا كما نرى اليوم في كل أنحاء العراق.
يجب أن نعلم أن من يختلقون الأكاذيب ويبثون الإشاعات ويحرضون على العنف والفتنة الطائفية والعنصرية بين أبناء الشعب الواحد هم ليسوا إعلاميين رغم أنهم يمتلكون وسائل إعلام ينقلون بها سمومهم إلى الناس. يجب أن تبدأ الحكومة والمؤسسات العامة والخاصة والمواطنون باتخاذ إجراءات قضائية ضد كل من يتجاوز على القانون ويحرض على العنف ويثير الفتنة في البلاد لأن المسألة خرجت عن إطار التنافس والتنابز والتشاجر إلى حيز القتل وإحراق الأخضر واليابس. إنني اقترح الخطوات الآتية من أجل الحد من تأثير إعلام التحريض والتحامل:
1 - إنشاء هيئة مهنية مستقلة لمراقبة أداء وسائل الإعلام العراقية والأجنبية كي تستطيع أن توثق التجاوزات التي ترتكبها بعض الجهات باسم حرية الإعلام وتقدم الأدلة للجهات القضائية بهدف ملاحقة المتجاوزين والاقتصاص منهم.
2- اتخاذ إجراءات رادعة أخرى بما في ذلك إلغاء الإجازة لوسائل الإعلام التي يثبت قضائيا قيامها بتحريض متعمد على العنف وبث التفرقة الطائفية والعنصرية والشائعات مع علمها مسبقا بزيفها، مع افتراض حسن الظن دائما بما يقدمه الإعلامي من معلومات بأنه قدمها معتقدا بأنها أقرب إلى الحقيقة.
3- التنسيق مع الدول الأخرى التي تمتلك وسائل إعلام موجهة للعراق بشأن نشاطات التحريض والتجاوزات الأخرى التي تطلقها بعض وسائل الإعلام المنطلقة من أراضيها وتقديم الأدلة لها على ذلك من أجل محاسبتها.
5- تقديم كافة التسهيلات والمعلومات الأمنية والحماية اللازمة لوسائل الإعلام العاملة في العراق كي تقوم بعملها على أكمل وجه دون اشتراط أن تكون موالية للحكومة أو للعراق. علينا أن نفترض أن ولاء الإعلامي هو للمهنية وليس لأي فكرة أخرى مهما كانت مقدسة عند الآخرين. لقد فقدنا خلال السنوات الثلاث والنصف الماضية عددا كبيرا من الإعلاميين والعاملين في مجال الإعلام دون مبرر وكان بإمكان الحكومة أن تقدم الدعم الأمني والمعلوماتي لهم كي تجنبهم المخاطر.
6- أن تتجنب الحكومة إغلاق مكاتب وسائل الإعلام بمجرد استياء هذا المسئول أو ذاك من خبر أو تعليق نشرته أو بثته هذه الوسيلة أو تلك، كما حصل مع إغلاق مكتب قناة العربية في بغداد لمدة شهر أو التهديد بإغلاق قناة الشرقية وجريدة الزمان. مثل هذه الأعمال العشوائية وغير القانونية تضر بالعراق وبالشعب العراقي وبالمصالحة الوطنية.
7- تقديم المعلومات باستمرار لوسائل الإعلام وعقد مؤتمرات صحفية متواصلة لإطلاع وسائل الإعلام على مجريات الأمور لأننا سوف نفوّت بذلك الفرصة على المتصيدين في الماء العكر ممن ينشطون في الظلام ويستأسدون على الضعفاء. غياب المعلومات يدفع الكثير من وسائل الإعلام إلى البحث عن مصادر أخرى قد تكون غير موثوقة أو غير قانونية. يجب أن نعلم أن السيطرة على تدفق المعلومات في عصر الإنترنت والعولمة والهواتف المحمولة والفضائيات هو أمر في غاية الصعوبة، إن لم نقل مستحيلا، لذلك فإن الأفضل هو تقديم المعلومات الحقيقية والكاملة باستمرار كي نجنب وسائل الإعلام اللجوء إلى طرق أخرى غير دقيقة للحصول على المعلومات. وعلى الحكومة في الوقت نفسه أن تضبط تصريحات أعضائها والناطقين باسمها، لأن بعضهم، ممن استهوتهم البهرجة الإعلامية دون أن تكون لهم خلفية ثقافية أو إعلامية، يطلقون تصريحات متناقضة ويقولون ما لا يعلمون مما استدعى رئاسة الوزراء في عدة مناسبات إلى نفي بعض التصريحات أو القول إن فلانا من الناس لا يمثل الحكومة. ومنذ تشكيل حكومة المالكي حتى الآن رأيت ثلاثة أشخاص على الأقل ادّعوا بأنهم ناطقون رسميون باسم رئيس الوزراء… وقد يكون هناك أكثر.
في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ العراق التي ينزف فيها الجسد العراقي دما، لا يسع أيٌ منا، ممن يكن الخير لبلده وشعبه ويحملُ مشاعر إنسانية صادقة، إلا أن يقفَ في خندق الشعب ضد أعدائه من الإرهابيين والمجرمين والطائفيين الذي يريدون الشر بنا جميعا. المصالحة الوطنية تحتاج إلى عمل دؤوب ومخلص وليس إلى كلام منمق يفتقر إلى المصاديق على الأرض.
*كلمة ألقيت في مؤتمر المصالحة الوطنية العراقية الذي عقد في لندن الأحد 29/10/2006 الذي رعته وزارة الحوار الوطني العراقية.