اليورو تهدد هيمنة الدولار العالمية لكنها تنفع الاقتصاد الأمريكي
الحياة آب/أغسطس 1998
يهيمن الدولار منذ قرن من الزمن تقريبا على النظام المالي العالمي، وبسبب الاستعمال المكثف للدولار في جميع أنحاء العالم كعملة عالمية، بما يتضمنه ذلك من وظائف العملة المختلفة، من خزن للقيمة إلى تحويل الثروة وتسعير السلع والخدمات، فقد اكتسب الدولار أهمية تفوق بكثير حجم الولايات المتحدة الاقتصادي في العالم، حيث لا يتجاوز الناتج الإجمالي الأمريكي 27% من إجمالي الإنتاج العالمي. غير أن الدولار يشكل 56% من احتياطي العملات الأجنبية في العالم و 48% من قيمة فواتير الصادرات العالمية، و84% من عمليات تبادل العملات الأجنبية الثنائية العالمية.
ومع تزايد استخدام العملات وتنامي سيولة الأسواق المالية العالمية، ازداد التعامل بالدولار من قبل الشركات والأشخاص على حد سواء في جميع النشاطات المالية والتجارية، واصبح الاستغناء عنه أمرا صعبا بعد أن اكتسب ثقة عالمية واسعة تعززت بمرور السنين بسبب القوة الاقتصادية (والعسكرية) الهائلة للولايات المتحدة الأمريكية. ولم تستطع عملات قوية أخرى مثل الين الياباني والمارك الألماني والفرانك الفرنسي والجنيه الإسترليني أن تحد من هيمنة الدولار على النظام المالي العالمي طيلة القرن الماضي. غير أن الوضع اصبح مختلفا جدا الآن بعد تبني 11 دولة من دول الاتحاد الأوروبي، بما فيها ألمانيا وفرنسا، للعملة الأوروبية الواحدة “اليورو” التي ستصبح العملة الرسمية للاتحاد الأوروبي في يناير من العام المقبل (1999).
ويتجاوز الناتج المحلي الإجمالي الحالي للدول الإحدى عشر 6 ترليون دولار، ومن المتوقع أن يصل إلى 7 ترليون دولار في العام المقبل، خصوصا وان هناك انتعاشا اقتصاديا في العديد من الدول المكونة لمنطقة اليورو الحالية. وعندئذ سيقترب حجم الاقتصاد الأوروبي من حجم الاقتصاد الأمريكي، الذي بلغ الناتج المحلي الإجمالي فيه 8 ترليون دولار. وستكون منطقة اليورو اكبر مستورد ومصدِّر للسلع والخدمات في العالم حتى عند استثناء التجارة البينية لدول الاتحاد. ومع انضمام كل من بريطانيا والسويد والدنمارك، التي اختارت البقاء خارج منطقة “اليورو”، واليونان التي لم تستوفِ شروط الانضمام، فان الاتحاد الأوروبي، وبالتالي منطقة اليورو، ستكون اكبر اقتصاد في العالم. ومع توسع الاتحاد الأوروبي إلى وسط وشرق أوروبا، فان اليورو ستزداد قوة ونفوذا في الاقتصاد العالمي، وسيكون هذا بالطبع على حساب الدولار الأمريكي.
إن تناقص تكاليف التحويل والعمليات المالية، بسبب غياب العملات الأوروبية المتعددة واندماجها في عملة واحدة، سوف يزيد من جاذبية اليورو حيث لا تحتاج الشركات أو رجال الأعمال إلى تغيير العملة كلما أرادوا القيام باستثمار أو نشاط مالي أو تجاري في دول الاتحاد المختلفة. كذلك فان الاتحاد النقدي الأوروبي سوف يوسع من اقتصاديات الحجم التي ستقلص من تكاليف الإنتاج وتسهل انتقال المبادلات التجارية بالسلع والخدمات وهذا من شأنه أن يشجع الشركات على استخدام اليورو بدلا من الدولار. وقد طلبت شركات بريطانية مثل بريتش غاز وعالمية تتخذ من بريطانيا مقرا لها، مثل “آي سي آي”، من مورِّديها القبول بتسديد قوائمها باليورو، مما يعني أن الشركات الأوروبية أو العالمية سوف تتعامل باليورو حتى في البلدان التي لم تنضم إلى منطقة اليورو مثل بريطانيا والسويد والدنمارك واليونان.
ومن المرجح جدا أن تُستخدَم اليورو في التعاملات المالية في أوروبا الوسطى والشرقية لان معظم دول المنطقة تطمح إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في المستقبل القريب ولا بد لها من التكامل الاقتصادي مع الاتحاد وان التعامل باليورو أو ربط عملاتها بها سوف يكون من وسائل التكامل مع الاتحاد. كذلك فإن دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالتحديد، مثل مصر وليبيا والجزائر وتونس والمغرب التي تتعامل تعاملا وثيقا مع أوروبا، سوف تحتاج إلى التعامل باليورو.
ومن المحتمل جدا أن تبدأ الدول الآسيوية مثل اليابان وأعضاء منظمة آسيان وغيرها باستخدام اليورو في تعاملاتها المالية مع الاتحاد الأوروبي على الأقل والتي تتم بالدولار حاليا. ومن المرجح أن تخفِّض البنوك المركزية العالمية من احتياطاتها بالدولار وتستبدلها باليورو خصوصا وان معظم البنوك المركزية تحبذ تنويع مخزوناتها من العملات الأجنبية لكي تتجنب الخسائر الناتجة عن انخفاض سعر الدولار والتي طالما عانت منها في السابق.
مقابل ذلك هناك بعض المشاكل التي قد تعترض اكتساب اليورو للمكانة العالمية التي تستحقها. من هذه المصاعب هي حداثة الاتحاد الأوروبي ككيان مستقل والغموض الذي لا يزال يخيم على الشكل النهائي الذي سيتخذه الاتحاد، والاختلافات القائمة بين دول الاتحاد على العديد من القضايا، وصغر أحجام الأسواق الرأسمالية الأوروبية وتفككها مقارنة مع الأسواق الأمريكية. إلا أن كل هذه الأسباب، باستثناء السبب الأخير، لا تشكل تهديدا حقيقيا على مستقبل اليورو مقابل التصميم الأوروبي، والألماني على وجه التحديد، على إنجاح هذه التجربة.
ولا ننسى أن ألمانيا هي ثالث اكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة واليابان، وان الحكومة والمعارضة الألمانية على حد سواء متحمستان جدا للوحدة الأوروبية الشاملة التي تشكل الوحدة النقدية إحدى أهم ركائزها. ويضاف إلى التصميم الألماني الحماس الفرنسي للوحدة الأوروبية الذي لم يتغير بتغير الاتجاه السياسي للحكومة الفرنسية بعد فوز الرئيس شيراك بالرئاسة أو بعد تولي جوسبان رئاسة الحكومة. أما بريطانيا فسوف تنضم إلى الاتحاد النقدي الأوروبي عاجلا أم آجلا لأن البريطانيين يعلمون أن مستقبلهم سيكون داخل أوروبا لا خارجها، وان المعارضة الشعبية البريطانية الحالية لأوروبا سوف تتضاءل مع زوال الغموض والشكوك بعدم نجاح الاتحاد النقدي.
ومن الجدير بالذكر أن سبب المعارضة الشعبية البريطانية هو سيطرة اليمين البريطاني على الإعلام في السابق، لكن هذه السيطرة قد بدأت تتغير بتحالف اكبر ناشر ومالك لوسائل الإعلام في بريطانيا روبرت مردوخ مع رئيس الوزراء البريطاني توني بلير منذ عامين أو اكثر. ومع تشرذم حزب المحافظين المعارض وانقسامه، فان رأي الحكومة العمالية المؤيد لأوروبا سوف يسود في نهاية المطاف.
وعندما تنضم بريطانيا إلى اليورو، فان مكانة اليورو العالمية سوف تتعزز خصوصا وان بريطانيا تمتلك سوقا رأسمالية كبيرة ومركزا ماليا عريقا هو مدينة لندن المالية. ولهذا السبب فان الدول الأوروبية المؤسسة للاتحاد النقدي كألمانيا وفرنسا تحرص على انضمام بريطانيا إلى اليورو في اقرب فرصة، ولذلك فقد تساهلت كثيرا مع التلكؤ البريطاني ووافقت على استشارة بريطانيا فيما يخص البنك المركزي الأوروبي المقترح رغم رفضها الانضمام له في المراحل الأولى.
إن وضع الأسواق المالية الأوروبية سوف يتغير دون شك بعد تحقيق الاتحاد النقدي حيث سيتعزز الترابط والتنسيق فيما بينها لكي تتكامل في النهاية وترتقي إلى مستوى السوق الأمريكية. وليس من المعقول أن تتكامل الأسواق الأوروبية قبل حصول الاتحاد النقدي أو أن تكون بمستوى السوق الأمريكية التي مضى على تأسيسها فترة طويلة من الزمن. لكن ذلك سيحصل بمرور الزمن وتوسع الاتحاد الأوروبي ليصبح اكبر اقتصاد في العالم في مطلع القرن المقبل.
واستنادا إلى دراسة حديثة قام بها أكاديميان من مركز لندن لأبحاث السياسة الاقتصادية ونشرت أخيرا فان اليورو ستصبح عملة عالمية خلال اشهر وليس سنوات. وليس بالضرورة أن يقود التوسع الاقتصادي الأوروبي إلى الإضرار بالاقتصاد الأمريكي، بل على العكس من ذلك فان الاقتصاد الأمريكي سيحتاج إلى الاتكاء على الاتحاد الأوروبي في حالة الأزمات المالية أو الصعوبات الاقتصادية، وسيكون ذلك دون شك في صالح الاقتصاد الأمريكي أولا والعالمي ثانيا الذي سيتحرر لأول مرة منذ مطلع هذا القرن من انفراد أمريكا ودولارها بالهيمنة الاقتصادية على العالم.
حميد الكفائي