أيلول/سبتمبر 1999
يعتبر انطلاق العملة الأوروبية الواحدة، اليورو، في الأول من كانون الثاني هذا العام (1999) أهم حدث نقدي هذا القرن، على الأقل منذ تراجع الجنيه الإسترليني أمام الدولار في الثلاثينات. وسوف يترك هذا الحدث تأثيراته المهمة على التعاملات المالية العالمية إجمالا وعلى الدولار بشكل خاص. وقد تناولت في آب الماضي تأثيرات اليورو على الاقتصاد العالمي بشكل عام والدولار الأمريكي بشكل خاص، وأود في هذا المقال إلقاء بعض الضوء على التأثيرات المحتملة لليورو على الاقتصادات العربية ومنطقة الشرق الأوسط بشكل عام.
تضم منطقة اليورو بلدانا صناعية كبيرة ومهمة جدا مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، وتشكل بمجموعها ثاني أكبر تجمع اقتصادي في العالم بعد الولايات المتحدة. كذلك فإن منطقة اليورو هي أكبر مستورد ومصدِّر في العالم حيث تفوق حصتها من التجارة العالمية، التي تبلغ حاليا 19%، حصة الولايات المتحدة البالغة 17 %. ومن المرجح أن يتوسع الاتحاد النقدي الأوروبي في المستقبل المنظور ليشمل كل بلدان الاتحاد الأوربي الخمسة عشر، بل قد يتجاوزها ليضم بلدانا أخرى كبولندا وهنغاريا وجمهورية التشيك، وعندها ستتحول منطقة اليورو إلى أكبر اقتصاد في العالم.
من المرجح أن تتحول البلدان التي تتعامل بنسبة عالية من تجارتها مع بلدان منطقة اليورو بعيدا عن الدولار إلى اليورو. نفس الشيء يمكن أن ينطبق أيضا على بلدان الشرق الأوسط بما في ذلك الدول المصدرة للنفط. لكن الوضع يصبح أكثر تعقيدا بسبب كون النفط والمنتجات النفطية لا تزال تشكل أهم صادرات معظم بلدان الشرق الأوسط، وأن هذه المنتجات تسعر عالميا بالدولار الأمريكي. ويوضح هذا سبب التعامل بالدولار في منطقة الشرق الأوسط بنسبة 80% من التعاملات التجارية رغم أن ثلث تجارة الشرق الأوسط يتم مع الاتحاد الأوربي. ولأن تجارة النفط قد تكاملت على مستوى عالمي منذ زمن بعيد، فإنه من غير المرجح أن يتحول التعامل بالنفط من الدولار إلى اليورو لسنوات عدة قادمة، هذا إذا حصل التحول المذكور على الإطلاق.
قد يحاول المصدرون الذين يتعاملون مع أوروبا أكثر من الولايات المتحدة، مثل ليبيا أو إيران، تسعير صادراتهم باليورو بدلا من الدولار. ومن الجدير بالذكر أن مسئولين إيرانيين رحبوا بمقدم اليورو، قائلين إنها سوف تحد من الهيمنة العالمية للدولار الأمريكي، إلا أن ذلك ربما يعبر عن موقف سياسي أكثر من كونه سياسة اقتصادية هادفة. كذلك طرحت الإمارات العربية المتحدة احتمال تسعير النفط بسلة من العملات العالمية بدلا من الدولار. وقال السيد عبيد بن سيف الناصري وزير النفط في دولة الإمارات العربية المتحدة بعد انطلاق اليورو إن النفط قد يُسعَّر في النهاية بسلة عملات تتضمن اليورو الأوروبي بعد أن يكتمل تطورها. وقال لصحيفة الحياة اللندنية “هناك احتمال أن يُسعَّر النفط وبعض السلع الرئيسية في المستقبل عن طريق سلة من العملات يكون فيها الدولار العملة الرئيسية مع اليورو والين، بشرط أن تثبت اليورو نجاحها واستقرارها”. غير أن هذه هي الأخرى لا تعدو عن كونها رغبة بعيدة الأمد قد لا تتحقق لعدة سنين إن لم نقل عقود قادمة.
لقد عارض مشترو النفط في السابق مقترحات لإلغاء دور الدولار لأن التجارة العالمية بأكملها قد بنيت على أساس كون الدولار هو العملة الرئيسية الوحيدة في العالم ولم يؤخذ في الحسبان التطورات المستقبلية التي قد تأتي بعملة أخرى للهيمنة العالمية. على سبيل المثال، سعت إيران في الماضي إلى إقناع المصافي اليابانية أن تشتري النفط بالين، لكنها فشلت في ذلك. وطالما بقي منتجو النفط الأوربيون كبريطانيا والنرويج خارج العملة الأوروبية الواحدة فإن دور اليورو في تجارة النفط سيبقى محدودا، لكن ذلك قد يتغير إذا ما انضمت بريطانيا إلى العملة الواحدة، كما هو مرجح مستقبلا. أما النرويج فلم تنضم بعد إلى الاتحاد الأوروبي لكنها ستضطر إلى ذلك في المستقبل، وعندها قد تسعى إلى تسعير نفطها بالعملة الأوروبية إذا ما رأت في ذلك مصلحة واضحة، خصوصا في حالة بيع معظم إنتاجها من النفط داخل الاتحاد الأوروبي. من المرجح أن تبقى تجارة المنتجات المكررة خارج منطقة اليورو تُسعَّر بالدولار في المستقبل المنظور. لكن العملة الجديدة سوف تُتَبنى بشكل سريع في صفقات إنتاج الجملة والتجارة داخل أوروبا، وكذلك في الصناعات الكيميائية والغاز في المنطقة.
أما بالنسبة إلى التجارة البينية العربية، بما في ذلك التجارة بين دول الخليج، فإنه من المرجح أن يستمر الدولار في دوره كعملة رئيسية في التجارة، على الأقل لأن أكثر دول مجلس التعاون الخليجي قد قامت بربط عملاتها الوطنية بالدولار. ورغم أن هناك مقترحات حول فك ارتباط العملات الخليجية بالدولار واستبداله بسلة من العملات، التي ستتضمن كلا من اليورو والين، فإن مثل هذا الإجراء يبدو غير مرجح في الوقت الحاضر بسبب الاعتماد الكبير لهذه الدول على صادرات النفط التي يتم تقييمها بالدولار. إن فك الارتباط بالدولار، لو حدث فعلا في المستقبل، فإنه سيحدث على الأرجح في بلدان مثل مصر والإمارات العربية المتحدة التي تمتلك قواعد تصديرية متنوعة، ولا تعتمد على منتج تصديري واحد، هو النفط في حالة بلدان الشرق الأوسط الأخرى كالسعودية والكويت. وقد يقول قائل إن صادرات الإمارات لا تختلف عن صادرات دول الخليج الأخرى وهي النفط بالدرجة الأولى، إلا أن الحقيقة هي أن الإمارات أصبحت مركزا تجاريا كبيرا لمرور وتصريف وإعادة تصدير الكثير من الصادرات القادمة من إيران والباكستان والهند الذاهبة إلى بلدان الشرق الأوسط وأوروبا.
لا تزال اليورو عملة جديدة وطالما بقيت كذلك فلن تكون قادرة على كسب ثقة المتعاملين بها سواء كانوا أفرادا أو شركات أو حكومات. لكن قوة اليورو تكمن في سعة وقوة الاقتصاد الأوروبي، وبالأخص الاقتصاد الألماني، والذي أشارت الأرقام الأخيرة إلى انه بدأ يتحسن مع ارتفاع الطلبيات الصناعية الخارجية، من الولايات المتحدة واليابان على وجه التحديد. كذلك أشارت الإحصاءات الصادرة عن وكالة الإحصاء الأوروبية “يوروستات” في السادس من سبتمبر الماضي إلى أن البطالة في منطقة اليورو عموما قد انخفضت في شهر تكوز/يوليو الماضي (1999) إلى 10,2% من إجمالي القوى العاملة. وتشير توقعات الاقتصاديين المستقلين إلى أن اقتصاد الاتحاد الأوروبي سوف ينمو بحوالي 2% هذا العام و3% في العام القادم. وتعتبر هذه التوقعات مشجعة لمستقبل اليورو بشكل عام. إن بلدان الشرق الأوسط عموما، خصوصا في شمال أفريقيا، تتعامل بشكل واسع مع الاتحاد الأوروبي أكثر بكثير من تعاملها مع الولايات المتحدة، لذلك فإنها سوف تبدأ التعامل باليورو تدريجيا. أما بلدان الشرق الأوسط الأخرى خصوصا تلك المصدرة للنفط والمواد الخام فإنها ستواصل التعامل بالدولار في المستقبل المنظور، لكنها سترفع من حصة اليورو في احتياطاتها النقدية.
ويتوقع الكثير من المحللين أنه سيتم في النهاية إيداع ما يقدر بـ 30 –40 في المئة من احتياطات البنوك المركزية باليورو ونفس النسبة تقريبا بالدولار. ومن المؤكد أن تشكل بلدان الشرق الأوسط جزءا لا يستهان به من هذه الاحتياطات. إلا أن استمرار تسعير النفط بالدولار سوف يُبقي كل الدول المصدرة للنفط خارج تأثير اليورو، وبالنتيجة يُبقي على ارتباط عملاتها بالدولار.
إجمالا، لا تزال اليورو غير مجربة؛ وستحتاج الأسواق العالمية إلى مزيد من الوقت قبل أن تأتمنها كمخزون مستقر للثروة، وستحتاج أيضا إلى تأسيس سجل ناجح قبل أن تنال ثقة المتعاملين بها، وهذا ينطبق على منطقة الشرق الأوسط مثلما ينطبق على باقي دول العالم. إلا أن قوة الاقتصاد الأوروبي وسعة منطقة اليورو واتساع تعاملاتها التجارية مع بلدان الشرق الأوسط سوف تجعل من مصلحة هذه البلدان التعامل باليورو بدلا من الدولار.