مستقبل الملاذات المالية الآمنة بعد 11 أيلول 2001
الحياة اللندنية- 30 حزيران-2002
من المألوف في العالم الغربي منذ زمن بعيد وجود ملاذات ضريبية ومالية آمنة للأموال, كتلك الموجودة في سويسرا ولوكسمبورغ, توفر بيئة استثمارية استثنائية تتمتع فيها الشركات والأفراد بإعفاءات ضريبية متميزة وسرِّية معلوماتية تحميهم من الملاحقات القانونية المحتملة من أي سلطة خارجية. واستفاد الكثير من الأفراد والشركات, خصوصاً الشركات المتوسطة الحجم التي يمتلكها أفراد أو مجموعة قليلة من الأثرياء من هذه الظاهرة. كما استفاد منها رجال أعمال وسياسيون من العالم الثالث تمكنوا من الحصول على أموال في شكل سريع من تعاملات تجارية أو نفوذ سياسي, وأخرجوا أموالهم التي يخشون عليها من الملاحقات القانونية من بلدانهم الأصلية إلى هذه المراكز المالية وتمتعوا بحماية وسرية تامة. ولا تهتم هذه المراكز المالية, وأشهرها, إضافة إلى سويسرا ولوكسمبورغ, جزر جيرزي وجيرنزي و(آيل أوف مان) البريطانية, بمصادر هذه الأموال أو شرعية اكتسابها, بل توفر لها مجالاً غير مشروط للاستثمار المعفى من الضرائب وسرية تحميها من ملاحقة السلطات الوطنية لأصحاب الأموال الهاربة. إلا أن هذه الملاذات أصبحت مهددة بالزوال منذ أواخر التسعينات في ظل النظام الاقتصادي العالمي الجديد الذي يشترط الشفافية والتزام القوانين واللوائح الدولية, وأثيرت حولها الشكوك بعد الهجمات الإرهابية على الولايات المتحدة في 11 أيلول (سبتمبر) الماضي, وأصبح وجودها يشكل خطراً على الأمن والسلام العالميين في نظر الكثير من المؤسسات السياسية والاقتصادية الغربية.
كما ان الانفتاح والشفافية لم يعودا ضروريين فحسب, بل مطلوبين قانونياً ودولياً, فيما تحولت السرِّية بكل تجلياتها الشخصية والعامة إلى بعبع يثير الهواجس في المؤسسات الأمنية الغربية. وازدادت الضغوط الدولية في اتجاه ملاحقة عمليات غسيل الأموال والتهرب من الضرائب, خصوصاً الأموال المشبوهة المصادر, المتأتية من تهريب المخدرات أو السلع المحظورة الأخرى, والتي يمكن أن تستخدم في أعمال إرهابية أو غير قانونية.
وتسعى المؤسسات الاقتصادية الدولية إلى الضغط على هذه المراكز المالية كي تحد من تقديمها الحماية والسرية للأموال الهاربة من الضرائب أو الملاحقات القانونية, وتحاول إلزام حكوماتها اتفاقات دولية لتبادل المعلومات حول الحسابات المصرفية المفتوحة لديها وحجم الأموال المودعة فيها ومصادر هذه الأموال.
ولم تعد مخاوف البلدان المتقدمة من استمرار الملاذات المالية مقتصرة على الأموال التي تخسرها جراء التهرب من الضرائب, بل أصبحت تتعداها إلى الخشية من أن تستخدم المنظمات الإرهابية السرِّية التي توفرها الملاذات الضريبية لإيداع أموالها وتشغيلها ثم استخدامها في تمويل العمليات الإرهابية في أنحاء العالم أو تصنيع أسلحة الدمار الشامل.
وتسمح القوانين في البلدان التي توفر السرِّية للحسابات المصرفية بأن تودع الأموال في حسابات مجردة من كل المعلومات ولا تحمل سوى أرقام ومفاتيح سرية لا يعرفها غير أصحابها. ومكنت هذه السرِّية الكثيرين ممن حصلوا على أموال من مصادر مشبوهة من أن يجدوا ملجأً ومأمناً لأموالهم يخرج كلياً عن سيطرة أي سلطة قضائية عالمية. وهناك عدد من الأمثلة عن محاولات فاشلة من دول عدة لتتبع أموال مسروقة أو متأتية من تهريب المخدرات أو النشاطات غير القانونية أودعت في حسابات في مصارف سويسرا.
وتجري المؤسسات والمنظمات الدولية, مثل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية والاتحاد الأوروبي, حالياً مفاوضات معمقة مع حكومات المراكز المالية المعنية, تهدف إلى وضع ضوابط محددة يمكن حكومات هذه الدول أو المحميات الالتزام بها بهدف كشف الحسابات المشبوهة وملاحقة المتهمين بالإرهاب والتهريب والتهرُّب من الضرائب. وتسعى التكتلات الدولية إلى إنهاء الامتيازات التي تتمتع بها هذه المراكز المالية لأنها لم تعد مقتصرة كما كانت في السابق على توفير ملاذ آمن للأغنياء الفارين من الالتزامات المالية في بلدانهم الأصلية, والتي يمكن التغاضي عنها, بل أصبحت تشكل خطراً على السلام والأمن العالميين لأنها توفر حماية لأموال يمكن أن تستخدم في عمليات إرهابية, أو تقدم إيرادات لأفراد سرقوا أموالاً من بلدان أخرى باستخدام مواقعهم السياسية أو الاقتصادية أو القضائية.
غير أن سعي المجموعات الاقتصادية الدولية لفرض ضوابط على هذه المراكز المالية يواجه الكثير من الصعوبات, يأتي في مقدمها أن كلاً من هذه المحميات يرفض تقديم أي تنازلات منفردة, وبعضها يصر على أن تكون مثل هذه الضوابط عالمية قبل أن يُطلب منه الالتزام بها. إذ إنها تخشى من أن يحقق منافسوها أرباحاً نتيجة لانسحابها من السوق في البداية.
والمشكلة الأخرى هي أن هذه المراكز المالية اعتادت على إيرادات مالية من جراء استقدامها الأموال الهاربة من الضرائب أو الملاحقة القانونية, وتقديمها خدمات الحماية والسرِّية لأصحاب هذه الأموال. لذلك فإنها لن تتخلى عنها طوعاً إلا إذا حصلت على تعويضات من الأسرة الدولية, أو الدول المطالِبة بإنهاء مثل هذه الممارسات, أو أُجبرت على ذلك من خلال استصدار قانون دولي ملزم لجميع البلدان. غير أن استصدار مثل هذا القانون يستغرق وقتاً طويلاً ويتطلب مفاوضات بين أطراف سياسية واقتصادية وقانونية متعددة. ونظراً الى خطورة المسألة وكونها ملحّة لا تتحمل التأخير, أُقتُرِحت بعض الحلول السريعة للتعامل معها.
ومن الحلول المطروحة لحل الخلاف القائم حول هذه المسألة, إحداث تغيير تدريجي في قوانين الحماية الاقتصادية التي توفرها هذه الدول للاستثمارات الأجنبية بهدف تخفيف التأثيرات الاقتصادية لأي تغيير في القوانين على اقتصادات هذه الدول. ومما يساعد على التوصل إلى حل هو أن حكومات الملاذات الآمنة تعلم جيداً أن العالم تغيَّر كلياً وليس في إمكانها الاحتفاظ بهذه المميزات الاقتصادية, وأنها ستضطر في آخر المطاف إلى تغيير قوانينها, وإلا فإنها قد تتعرض لعقوبات اقتصادية تفوق المنافع التي تحصل عليها في الوقت الحاضر من التسهيلات المالية التي تقدمها.
وتأتي المطالبات بتغيير القوانين الاقتصادية للملاذات المالية من جهتين, الأولى الاتحاد الأوروبي والثانية منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. وتتلخص هذه المطالب بتبادل المعلومات المالية مع البلدان الأخرى حول الشركات والأفراد المشتبه في تهربهم من دفع الضرائب, وإلغاء قانون التفضيل الضريبي الذي تتمتع به الشركات الأجنبية في هذه المراكز. ويصر الاتحاد الأوروبي على موافقة المراكز المالية المعنية على أن تكون المعلومات حول الشركات والأفراد العاملة على أراضيها مشتركة من دون أن تكون هناك حاجة الى التقدم بطلب محدد عن كل فرد أو شركة, أي أن على حكوماتها تقديم المعلومات في شكل دوري ومن دون طلب. فيما تتلخص شكوى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بأن السلطات في هذه المراكز المالية تفرض ضرائب على الشركات المحلية وفي الوقت نفسه تعفي الشركات الأجنبية من الضرائب, ما يجعلها تتمتع بأفضلية غير عادلة, وهذا يتعارض مع قوانين المنافسة العالمية.
وأبدت جزيرة (آيل أوف مان), وهي إحدى ثلاث جزر بريطانية تتمتع باستقلالية مالية, تجاوباً مع المطالب الدولية بالانفتاح والشفافية. فيما آثرت الجزيرتان الأخريان, جيرزي وجيرنزي, التريث في تلبية المطالب الدولية خشية خسارة ما تتمتعان به من أفضلية لمراكز مالية أخرى هي سويسرا ولوكسمبورغ. ونتيجة لهذا التجاوب أزالت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية المحمية البريطانية من قائمة (مرتكبي الممارسات الضريبية الضارة). لكن الجزيرة لا تزال تتفاوض مع لجنة المعايير الضريبية في الاتحاد الأوروبي بهدف تسوية الخلاف حول ما تسميه اللجنة (الممارسات الضريبية غير العادلة) التي تمارسها الجزيرة.
وكان وزير الخزانة البريطاني غوردون براون وعد الاتحاد الأوروبي بتعاون المحميات البريطانية الثلاث في ما يتعلق بتبادل المعلومات المالية حول الأفراد والشركات مع بقية أعضاء الاتحاد, ما أغضب المسؤولين في الجزر الثلاث الذين يشعرون أن الجزر ستكون كبش فداء في هذا الصراع في وقت لا تزال لوكسمبورغ, وهي عضو في الاتحاد الأوروبي, وسويسرا تتمتعان باستقطاب الأموال من بقية أنحاء العالم من خلال مواصلة تقديمهما اعفاءات ضريبية وسرية حمائية للاستثمارات الأجنبية.
وينفي المسؤولون في (آيل أوف مان) أن تكون الجزيرة توفر ملاذاً آمناً لأموال الإرهابيين, ويقول مسؤولون ماليون فيها, إن عمليات غسيل الأموال تجرى في نيويورك ولندن أكثر مما تجرى في الجزيرة, ويستشهدون على مزاعمهم هذه بسهولة فتح الحسابات المصرفية في المصارف البريطانية والأميركية التي يقولون إنها تتم من دون الالتزام بالضوابط المعروفة لمنع حصول التلاعبات المالية.
وتشير الإحصاءات والدراسات التي أجريت حول هذا الموضوع إلى أن أهم سبب يدفع المستثمرين إلى استثمار أموالهم في الملاذات المالية العالمية المعروفة هو السرِّية التي توفرها هذه المراكز, ما يعني أن لدى هؤلاء المستثمرين ما يخشونه من التعاملات المالية العلنية, ما يقلق الكثير من المسؤولين في الغرب.
وتنص لوائح وقوانين الاتحاد الأوروبي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية على التبادل المباشر والفوري للمعلومات المالية بين الدول الأعضاء والمحميات التابعة لها. وهذا يضع المراكز المالية المذكورة في مأزق حقيقي. فهي, من جهة, لا تستطيع أن ترفض مشاركة دول الاتحاد بما تملك من معلومات, لأنها ستفقد عدداً من المزايا التجارية مع دول الاتحاد في حال فرض عقوبات عليها, ومن جهة أخرى فإن تبادل المعلومات سيفقدها معظم زبائنها اللاهثين وراء السرية.
يبدو أن الملاذات المالية العالمية ستوافق على مبدأ تبادل المعلومات, وأشار بعضها إلى هذه الموافقة, وأمهلت حتى كانون الأول (ديسمبر) 2005 للتوقيع على معاهدة دولية لتبادل المعلومات. لكن الجدل سيتركز على طبيعة هذه المعلومات وهل ستقدم عند الطلب أم عند التأكد من ضرورة تقديمها, كأن تقدم الدول الطالبة لها أدلة تثبت أن الشركة أو الفرد المعني متورط في مخالفات أو جرائم اقتصادية أو غيرها, وأن الكشف عن المعلومات الخاصة به سيقدم دليلاً إضافياً ضده. وتصر حكومات الملاذات المالية العالمية على أنها لن تتقيد بتقديم المعلومات عند الطلب إلا إذا أصبح مثل هذا المطلب معياراً دولياً تلتزم به كل دول العالم.
وتشترط الملاذات المالية الاحتفاظ بحق الامتناع عن تقديم المعلومات إذا لم تر في ذلك ضرورة قصوى أو خطورة أمنية. وعلى رغم أن امتلاكها مثل هذا الحق لن يمنع الدول الأخرى من الحصول على المعلومات الضرورية إن هي أصرت على ذلك, إلا أنها ستستخدمه في إقناع زبائنها من المستثمرين الأجانب بأن السرية التي يبحثون عنها لا تزال مضمونة إلا إذا كانوا فعلاً متورطين في أعمال إرهابية أو مخالفات قانونية.
والرسالة التي يجب على الجميع أن يفهمها هي أن السرِّية لم تعد ممكنة في عالم ما بعد 11 أيلول, ولن يستطيع أحد, سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات أو الدول أن يُبقي على أي من الممارسات قيد السرية, مهما كان نوعها, مالية أو اقتصادية أو سياسية, بل وحتى دينية, إذ سيسعى النظام العالمي الجديد إلى كشفها بهدف إزالة أي خطر محتمل لها. وإن كان بين دول العالم الثالث من لا يزال يعتقد أن في الإمكان العيش في عالم منفرد خاص به, فإنه أقرب إلى الوهم من الحقيقة. لقد تغيَّر العالم إلى الأبد, وسيتغير بسرعة لا يتصورها أحد. وإن كان ثمة سؤال إن كان هذا التغير هو نحو الأسوأ أم نحو الأفضل, فإن الجواب عنه في اعتقادي هو نحو الأفضل, لأن أكثر الممارسات السرِّية عادة ما تخدم الأقلية القوية على حساب الغالبية التي يراد لها أن تكون ضعيفة بحجب المعلومات عنها. ولم يعد الانفتاح والشفافية ضروريين فحسب, بل أصبحا مَطلبيْن يعاقب على مخالفتهما القانون الدولي. ومن هنا فإن محاولة التشبث بالممارسات البالية لم تعد في مصلحة أحد في عالمٍ أصبح ترابط المصالح من أهم سماته.