المواطنون العراقيون العاديون أصيبوا بالذهول من تطورات الأحداث بهذا الاتجاه الخطير، خصوصاً مع اعتقاد كثيرين منهم أن الأطراف السياسية قد لجأت إلى العنف لحل خلافاتها السياسية، وكان معظمهم يعولون على العقلانية السياسية التي أملوا أن يتحلى بها السياسيون لتسيير أمور الدولة، خصوصاً أنهم أجمعوا على الطلب من الأميركيين مغادرة البلاد قبل شهرين فقط.
كثيرون داخل العراق وخارجه يعزون تفجيرات الخميس الدامي في بغداد، التي استهدفت في شكل عشوائي عمال بناء فقراء يصطفون للذهاب إلى أعمالهم وتلاميذ صغاراً يستعدون للدخول إلى صفوف الدراسة وموظفي مؤسسات الدولة الذين بدأوا على التو ممارسة أعمالهم، وبينهم موظفو هيئة النزاهة الذين يبدأون عملهم مبكراً في كشف الفساد المستشري في دوائر الدولة، ومئات آخرين غيرهم، إلى دوافع سياسية ويعتقدون أن لها علاقة مباشرة بالخلافات الدائرة الآن بين أطراف «حكومة الشراكة الوطنية». والدليل الذي يسوقه هؤلاء وغيرهم هو أن توقيت التفجيرات وكثافتها يدل إلى أنها رد فعل من مجموعات مسلحة مرتبطة بجهات سياسية معينة تشعر أنها متضررة أو مهمشة حالياً.
وبغض النظر عن هوية منفذي تلك الأعمال الإجرامية العشوائية التي تشير إلى الانحطاط الأخلاقي لمرتكبيها ومن يدعمهم ويسهّل مهمتهم، والتي دانتها القوى السياسية العراقية جميعاً ومن دون استثناء، حتى وإن لم تكن هناك أي علاقة مباشرة أو غير مباشرة لتلك التفجيرات بأي من القوى السياسية المتهمة بارتكابها، فإنه يمكن القول من دون تردد إنها تركت تأثيرات قد تكون وخيمة ومدمرة على العملية السياسية الجارية في البلاد منذ ثماني سنوات. فقد نسفت تلك التفجيرات، وما سبقها من خلافات سياسية حادة واتهامات لقادة سياسيين بارزين بعلاقتهم بارتكاب أعمال إرهابية، الثقة بين الأطراف السياسيين التي بنيت لبِنة لبِنة خلال الفترة الماضية، وأعادت العملية السياسية إلى المـــربع الخـــطير الذي كـــانت علـــيه في السنوات الأولى لعملية التغيير في العراق.
من نافل القول إن تلك الخلافات بين الأطراف والشخصيات السياسية كان يجب أن تعالج بالحوار والطرق السياسية وعبر صناديق الاقتراع وألا يسعى أي طرف الى توظيف صلاحياته وإمكاناته التي حصل عليها بسبب توليه منصباً معيناً في الدولة لمحاربة خصومه السياسيين، حتى وإن كان ذلك عبر الطرق السلمية. العراق يحتاج إلى الهدوء والتسامح والعمل الجاد والدؤوب لبناء مؤسساته المدنية والعسكرية والقضائية ومعالجة الجروح الكبيرة النازفة منذ عشرات السنين بسبب الحروب والقمع والاضطهاد السياسي والقومي والديني، وكل ما يجري حالياً من مصادمات بين القوى السياسية يقود العراق في الاتجاه المعاكس للاستقرار والرخاء والمصالحة الوطنية. كذلك فإن اللجوء إلى العنف كان يجب ألا يكون خياراً لأحد بعدما اتفقت القوى السياسية على الاحتكام إلى الدستور والقانون وبعد صدور العفو العام عام 2008 الذي عُدّ إيذاناً لبداية جديدة للجميع كي يعملوا معاً للقضاء على الإرهاب والفساد ويسعوا للبناء والرخاء والتأسيس لدولة ديموقراطية تتسع لكل العراقيين بمختلف انتماءاتهم الدينية والقومية واتجاهاتهم السياسية.
كان مؤلماً لكل العراقيين أن يُتهم نائب رئيس الجمهورية بالارتباط بالإرهاب ومؤلماً أيضاً أن يشعر بالاضطرار إلى مغادرة مقر عمله في العاصمة بغداد واللجوء إلى إقليم كردستان بدلاً من أن يواجه التهم الموجهة إليه ويقبل بحكم القضاء. وكان مؤلماً أيضاً أن يهدد رئيس الوزراء بالكشف عن مزيد من الملفات التي تدين سياسيين آخرين ولكن من دون أن يكشف عنها. العراقيون يريدون أن يعرفوا من يقف وراء أعمال العنف التي تقتلهم وتقضّ مضاجعهم كل يوم ويريدون معاقبة مرتكبي هذه الجرائم ومن يقف وراءهم ويسهّل أمرهم، ولا تهمهم هوية هؤلاء السياسية أو المذهبية أو القومية أو المناطقية، فهم مجرمون وكفى. ويريدون أن يعرفوا لماذا تعجز قوى الأمن والجيش، على رغم ما حققته من تقدم في فرض الأمن في البلاد في السنوات الأخيرة، عن منع وقوع بعض تلك الأعمال على رغم الإمكانات الهائلة التي وضعت تحت تصرفها.
لو كنت محل نائب رئيس الجمهورية لما برحت بغداد تحت أي ظرف ولواجهت اتهامات القضاء ودافعت عن نفسي بقوة، ولا يهمُّني إن ظلمني القضاء، فالظلم أحياناً يقود إلى الانتصار. التصدي لمواقع المسؤولية يتطلب أن يكون المرء مستعداً لتحمل العواقب حتى وإن كانت مؤلمة وغير عادلة، فما أكثر المظلومين في تاريخنا المملوء بالمظالم. ولو كنت محل رئيس الوزراء لكنت قد تجنبت اتخاذ مواقف علنية في هذا الملف، خصوصاً أن المتهم هو خصمي السياسي، وكنت سأكتفي بتأكيد أنني من جانبي كرئيس للوزراء سأعمل جاهداً لأن أمارس صلاحياتي في استئصال شأفة العنف والإرهاب وضمان عدالة الإجراءات القضائية وخلوها من أي مؤثر سياسي.
نعم العدل أساس الملك وأساس الثقة بين الأطراف جميعاً، سياسية كانت أم مهنية، أم شعبية، لكن أمن البلد واستقراره وتقدمه ووحدته الوطنية هي أساس لبقائه واستمراره وعدم انزلاقه نحو الهاوية، لذلك فهي تتقدم أحياناً على تحقيق العدالة إن كان هناك أي تعارض بينها. إن تزامن توجيه الاتهامات الى نائب الرئيس مع الإعلان عن النية باتخاذ إجراءات بحق نائب رئيس الوزراء، خصوصاً أنهما من قائمة سياسية وطائفة دينية مختلفتين عن قائمة وطائفة رئيس السلطة التنفيذية، يؤثر سلباً في مسار المصالحة الوطنية، فضلاً عن أن تزامن تلك الاتهامات والإجراءات مع موعد انسحاب القوات الأميركية من العراق أمر خطير جداً وهو يرسل رسالة سلبية إلى العراقيين وإلى دول العالم الأخرى مفادها أن العراقيين غير قادرين على التعايش في ما بينهم من دون وسيط أجنبي. لكن الحقيقة أن العراقيين قادرون على التعايش من دون عنف ومن دون تعسف إن قبلوا بحكم القضاء على تصرفاتهم الشخصية وحكم الشعب عبر صناديق الاقتراع على أدائهم السياسي والإداري.
الوضع الحالي خطير جداً وعواقبه وخيمة ومدمرة، والمطلوب الآن هو أن يعي قادة العراق جميعاً خطورة الموقف ويدركوا أنهم يلعبون بالنار التي ستحرق الجميع ومعهم العراق ومستقبله ووحدته الوطنية، وهذا بالتأكيد ليس ما يسعى إليه أي منهم.
حميد الكفائي
http://international.daralhayat.com/internationalarticle/344081