نشر الصديق الاستاذ حميد الكفائي مقالته الموسومة : “ تونس ومصر تمتلكان مقومات التحول البنيوي إلى الديموقراطية ” على جريدة الحياة اللندنية ، الجمعة 17 يونيو 2011 ، وقد قرأتها بشغف كبير ، ليس بسبب صداقتي لكاتبها ، بل بسبب توظيفه التاريخ الحديث في تفسير ظاهرة التحول الى الديمقراطية التي يعيشها العرب هذه الايام .. واليوم ، قلما نحظى بمقالات مثيرة للذهن والتفكير في خضم ما ينشره هذا او ما يعيد تكراره ذاك ، فان مئات المقالات العربية اليوم ، غدت مضيعة للزمن نظرا لرداءة مضامينها المتعبة .. خصوصا ما ينشر في مواقع بائسة .. تهتم بنشر مقالات ضحلة للغاية ! وانشر هذا ” المقال ” بناء على طلب من الاخ الاستاذ الكفائي نفسه ، اذ قمنا بالحوار حول ” الموضوع ” الذي اثاره ، وتجاذبنا الملاحظات التالية في دائرة تجمع المثقفين العراقيين على الويب ، وقد شاركتنا الحوار الاستاذة ميسون الدملوجي عضو مجلس النواب العراقي ..
ثمة ملاحظات نقدية عندي حول ما نشر في مقالة السيد الكفائي بصدد تونس ومصر كونهما تمتلكان مقومات التحول البنيوي الى الديمقراطية .. دعوني اقول :
1. ان المقومات الحضارية والتاريخية شيئ والتحول البنيوي شيئ آخر .. اذ لم افهم ما الذي تقصده بالتحول البنيوي .. ان الثورات والانتفاضات والتغييرات في انظمة الحكم شيئ مقابل التحول الى الديمقراطية شيئ آخر .. ولا يمكن مقارنة مناخ الثورة الفرنسية وانهاء الاقطاع والحكم المطلق والكنيسة في فرنسا نهاية القرن الثامن عشر بمناخات مصر وتونس اليوم حيث تسود اوضاع من نوع آخر تماما باختلاف العلاقات الاجتماعية والجوانب الاقتصادية والنظم السياسية .. واذا كانت الثورات الحقيقية من اجل الحرية والديمقراطية قد سبقتها حركات فكر حقيقية سواء في بريطانيا او فرنسا او بيئات غربي اوربا او امريكا الشمالية .. فان حركات الفكر الحقيقية ، لم نجدها في اية بيئة من بيئات مصر او تونس او ايران او العراق .. او غيرها جميعا .
2. كنت قبل ثلاثة اسابيع قد تحدثت في مؤتمر العرب وتركيا : اوضاع الحاضر ورهانات المستقبل الذي عقده المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات في الدوحة ، وتكلمت عن التداعيات الدستورية بين الطرفين .. ووجدت ان تونس قد سبقت كل المنطقة بـ ” عهد الامان ” ، ولكنني كنت اتحدث عن الدستور بتحديد صلاحيات الحاكم .. وان ثمة اصلاحات قد جرت لتكلل بتجربة الديمقراطية في تركيا .. واذا كان العرب قد مروا بتجارب دستورية وافكار دستورية وممارسات ( ديمقراطية ) .. في العديد من بلدانهم ، الا ان مجتمعاتنا لم تفقه معاني الحريات العامة ، ولم يسمح لها ان تعبر حتى عن حرياتها الشخصية ، حتى تمارس فيها الديمقراطية !
3. ان محمد علي باشا لم يقم في مصر حكما علمانيا حديثا ـ كما قلت ـ اعتمد على الفصل التام بين الدين والدولة .. الخ ولا ادري كيف كان حكم الرجل علمانيا حديثا ، والعلمانية لم تمارس بعد حتى في غربي اوربا عند فاتحة القرن التاسع عشر ! كانت مصر تابعة لحكم السلطنة العثمانية رسميا ، وكان الرجل يتمتع بسلطات لا مركزية واسعة ، ولكنه يستمد قوانينه كلها من الدولة حتى في صراعه معها ! والمؤرخ يدرك ان الدولة العثمانية لم تكن دولة دينية صرفة ، فقوانينها دنيوية وتشريعاتها دينية .. ومن الخطأ اعتبارها ” دولة خلافة ” فهي دولة سلطنة ، وحكمها السلاطين لا الخلفاء ! وبقي الوضع في مصر هكذا حتى على عهد الخديوي اسماعيل الذي طلب من السلطان منحه رتبة ( الخديوية ) من دون ان تنفصل مصر عن العثمانيين رسميا ، اذ لم تنفصل رسميا حتى على عهد الاحتلال البريطاني .. ومن ثم سقوط الدولة العثمانية واعلان فؤاد الاول نفسه ملكا على مصر والسودان عام 1917 . وعليه ، فان محمد علي باشا لم يكن اول حاكم اسلامي يخرج عن النموذج الاسلامي المألوف في الحكم .. ولا ادري ما الذي تقصده بالنموذج الاسلامي المألوف ، فهناك نماذج متعددة سواء على ايدي السلاطين ، او على ايدي الشاهات ، او ايدي الخانات ، او ايدي الامراء ، او ايدي شيوخ القبائل ، او ايدي الملوك ، او ايدي الائمة ! ان التاريخ الاسلامي بطوله وعرضه شهد نماذج مدنية في الحكم باسم الاسلام ، ولكنه لم يشهد ابدا وصول رجل دين للحكم ابدا حتى العام 1979 عند تأسيس اول جمهورية اسلامية في ايران يحكمها ” ولي فقيه ” !
4. ان تجارب محمد علي في مصر اصلاحية او تحديثية لبناء دولة ضمن دولة كبرى كانت تشهد ايضا حراكا اصلاحيا وتنظيمات وقوانين وتشريعات ليس من اجل الديمقراطية والعلمانية ، بل لانهاء العلاقات القديمة والطبقات القديمة والتقاليد القديمة وتشريع قوانين جديدة للارض والادارة والسكان والجيش .. وبضمنها التعليم والاوقاف وصولا الى القانون الاساسي للبلاد متمثلا بالدستور .. وان اقامة مصانع وتشييد قناطر وفتح شوارع .. كالذي شهدته مصر او غير مصر لا يعني بناء انسان جديد ولا يعني تأسيس مجتمع عادل .. لم يكن محمد علي باشا ديمقراطيا او علمانيا او حاكما عادلا .. لقد اراد بناء دولة قوية جدا ولم ينتصر من تلقاء ذات المصريين لقد قام باعظم مجزرة في تاريخ مصر بذبحه عدة الاف مؤلفة في ساعة واسعة وقضى على بنية المماليك القديمة ! وبني جيشا شرسا محق السودانيين ووصل الى شواطئ الخليج العربي ومضى نحو اليمن ووصل الى بلاد الشام التي سامها ابنه ابراهيم باشا العذاب ! وتحالف مع الفرنسيين الذين طلبوا منه غزو الجزائر بالنيابة عنهم ! بل وفكر ان يغزو العراق .. صحيح ان المجتمع المصري قد اصابته تحولات واسعة على في القرن التاسع عشر ، ولكن ولدت طبقة الاقطاع سيئة الصيت على عهده وعهد من تلاه من ابنائه .
5. صحيح ان حكمه كان فرديا ، ولكن لا يمكننا ان نطالبه ان يتبنى التجربة الديمقراطية الغربية .. فهل كانت تلك التجربة ناضجة في غربي اوربا حتى نطالبه بتبنيها ؟ وحتى ان افترضنا انه حكم بعد مائة سنة ، فهل غدا مجتمعه مدركا للحريات العامة ، وقد تغير وعي الناس وتبدل تفكيرهم .. وقضي على اوهامهم وشعوذاتهم وطقوسهم وتحولت ذهنياتهم المركبة حتى نطالبه بالنموذج الاوربي للديمقراطية ؟ وهل كان الطهطاوي او غيره بوزن مونتسكيو او فولتير حتى يعم الحراك الفكري في كل اجزاء المجتمع ؟ ان الديمقراطية شيئ والشعور الوطني شيئ آخر ولا يمكن ربط هذا بذاك .. ربما يخدم هذا الشعور بعض الممارسات ، ولكنه قد يودي الى الخراب .. خصوصا وان الشعور الوطني قد امتهن سواء ابان حكم مستبد او خلال عهد ديمقراطية ! وهذا ما ينطبق على تونس التي وجدتها في الذي نشرته عن تاريخها انها كانت سباقة في اصدارها ( عهد الامان ) بين الحكام الحسينيين ( نسبة الى مؤسس الحكم حسين بن علي ) الذين حكموا تونس ورعاياهم التوانسة .. ولكنني اتحرج في ان اصف عهد الامان انه يعتبر وثيقة مهمة في حقوق الانسان !
6. ان وضع تونس لا يختلف عن وضع مصر ، فكل من الاقليمين كانا تابعين للعثمانيين ، فهما يستمدان الشرعية من مركز السلطنة .. ولكن خطي شريف همايون قد صدر عام 1856 في حين صدر خطي شريف كولخانه عام 1839 .. وان قانون همايون هو الذي منح الاقليات والطوائف حقوقا بالمساواة وجعلهم يخدمون في الجيش الجديد .. واود القول ان خير الدين باشا التونسي لم يكن متحمسا للدولة الديمقراطية .. ان هذا المصطلح كبير جدا جدا علينا ونحن في بداية القرن الواحد والعشرين ، فكيف الحال في منتصف القرن التاسع عشر ؟ لقد كان الرجل طموحا لتأسيس مشروطية ، اي دستور مدني ، ومن يقرأ افكار خير الدين باشا في كتابه هذا ، فسيجد انه مزج بين الدين والدنيا ، ولم يكن مصطلح الديمقراطية موجودا ، فكيف بمناخها العام ؟
7. اما لم تنشا في مصر او تونس انظمة قمعية في الفترات اللاحقة .. فأتمنى ان نكون اكثر دقة في الذي عاناه الانسان المصري او التونسي سواء على ايدي حكام الاقاليم ، او على ايدي البايات المستبدين ، او ايدي الباشوات الاقطاعيين ، او شيوخ الهلاليين .. القمع موجود يا سيدي العزيز وربما تفوق في القرن التاسع عشر عما كان في العراق مثلا .. لقد عانى الانسان في بلاد الشام وبلدان المغرب العربي واليمن من صراعات محلية وطائفية وقبلية مريرة لم نجدها في العراق . ان التعايش الاجتماعي في العراق كان نموذجا رائعا مقارنة لما عاناه الانسان في اي مكان عربي آخر .. ولكن انقلب كل شيئ على عقبيه .. ان مصر وتونس لم تتمتعا بنظم حكم حديثة بنيت على اسس علمية ـ كما قلت ـ ولم يكن احد من الحكام يفكر بالمواطنين بقدر ما يفكرون بالدولة وتوسيع رقعة حكمهم .. اتمنى ان تقرأ كتابي : تكوين العرب الحديث الذي حللت فيه البنى السياسية والاجتماعية لترى حجم التفاصيل لما كان ولما حدث في الانسان وفي الارض وفي الدولة وفي المؤسسات .. وحجم العبيد وحجم المأساة والصراعات العرقية والصراعات المحلية والقبلية وحجم المجاعات والاهوال .. وحجم الانقسامات .. واذا كانت تجربة مصر العلوية او تجربة تونس الحسينية قد تميزتا بوجود ما يشبه الدولة والنظام .. فان تجارب عربية اخرى كانت تمتلك مقومات دولة كاملة مثل السلطنة العلوية في المغرب الاقصى ، والتجربة الديمقراطية متعثرة في حين ان لبنان الذي اكلته الحروب الاهلية والانقسامات الطائفية منذ ثلاثة قرون ولكن تجربته الديمقراطية قد تكون هي الاكفأ عربيا حتى هذه اللحظة .. !!
اختتم بالقول ان الديمقراطية لا يمكن زراعتها من قبل زعماء ، او سلاطين ، او بايات ودايات ، او معممين ورجال دين .. ولكنها تنمو عندما يجد المجتمع نفسه وقد تخلص من تقاليده البالية وذهنياته المركبة وتمتع بنوع من الحرية والانسجام وتعامل مع الاخرين بمنطق العصر وبلا كراهية .. سواء كان ذلك في العراق او سوريا او لبنان او مصر او تونس او غيرهما من البلدان
تنشر على موقع الدكتور سيار الجميل