أبرز مؤسسي حزب الدَّعوة الإسلامية: أسسنا الحزب بردة فعلٍ لمواجهة الشيوعيين
ففي لحظة أصبح نداً لقائد الثَّورة الإسلامية الإيرانية آية الله روح الله الخميني (ت 1989)، كونه صلى على جنازة شاه إيران، حتى أشارت إليه صُحف إيرانية بكافر إست، فمِن حظه أن يموت الشَّاه ولا يجدوا مَن صُلي عليه سوى إمام الشِّيعة بمصر السَّيد طالب الرِّفاعي، فمِمَّا أملاه عليَّ أن مِن سوء حظه أن يُصلي على الشَّاه وهو معزول عن ملكه، وحظ شاه إيران أن يُصلي عليه الرِّفاعي، بينما لو مات والتَّاج على رأسه لتنافس كبار المراجع، مِن الآيات العظمى، لإمامة الصَّلاة على جنازته، وما تمكن الرِّفاعي حضور الجنازة، ولو كان مأموماً لا إماماً.
يتحدر السَّيد طالب الرِّفاعي من مدينة الرِّفاعي، جنوب العِراق، بدءاً مِن انتقال أسرته إلى هناك، وهم الحِلِّيون بالأصل، وحتى ميله إلى اليسار بحدود بغضه للفقر، ثم رحلته إلى النَّجف، مروراً باتخاذه مقبرة للسكن والدِّراسة، بعد أن شحّت عليه المدارس الدِّينية بغرفة لكثرة الدَّارسين، وهذا بحد ذاته مفارقة. قال لي: وهو يقرأ ويُراجع هذه المقدمة: «سيظنُّ القراء أني أمتهن القراءة في المقابر، أي أسترزق منها» قلت: أهل الظَّن كثيرون، وسيحسبونها على المستملي!
كيف تتحول المقبرة بالنَّجف إلى مكان دراسة وسُكنى، ينام ساكنها فيها ملء جفونه، ثم دخوله الحوزة الدِّينية، وما نجده مِن معلومات ثرية عن مناهج هذه الدِّراسة وأساليبها، ومَن تعرّف إليهم، فصاروا أصدقاءً ورفاقاً في العمل السِّياسي، فالانتقال إلى مصر إماماً للشِّيعة هناك، وشهدت تلك المرحلة حوادثَ جساماً بالنِّسبة إليه، تتوّجت بالتعرف شخصياً إلى جمال عبدالنَّاصر (ت 1970)، ثم محمد أنور السَّادات (اغتيل 1981)، فاللقاء بشاه إيران، لكن وهو جنازة بلا تاج وبلا روح، ومنها تبدأ معاناة أُخرى دامت ما يُقارب الثَّلاثين عاماً.
تأتي أمالي الرِّفاعي، وهي جزء كبير من مذكراته، على مستوىَ كبيرٍ مِن الأهمية، فهو الشَّاهد الحي بعد أن لفظ الكثيرون أنفاسهم، نجد فيها رواية أُخرى وصوت آخر، يكشف بجرأة الصِّراعات بين الكبار على المرجعية، على أشياء كبيرة وصغيرة. كان الرِّفاعي مشاكساً حركاً، اعترف أنه تصرف بلؤم وتآمر في العديد مِن المواقف. لكن رِفاعي العشرينيات، مِن عمره، غير رِفاعي السبعينيات والثمانينيات، دمعت عينه فرحاً بسقوط عبدالكريم قاسم، وها هي دمعت الآن على سقوطه، يرى بمشهد قتله وإهانته مِن قبل ذلك الجندي النَّكرة فاجعةً، وهو يُحرك رأسه بحذائه أمام شاشة التلفاز.
هناك مراجعة، وإن كانت متأخرة، في أمالي الرِّفاعي، فهي ليست مذكّرات فقط، إنما تقييم أيضاً للمواقف، وبصراحة غير معهودة لدى أترابه ممَن كتبوا سيَرهم أو مذكراتهم، فقد ظلوا فيها مصرّين على ما كان قبل أربعين أو ثلاثين عاماً، ليس بينهم مَن ملك الشِّجاعة، وقال: أخطأت هنا، أو قصّرت هناك! إنما ظهروا أبطالاً على مدى العمر، يتحدثون عن الخمسينيات وكأنها الثَّمانينيات، ليست لديهم فواصل بين الأزمنة، ومشاعرهم تجاه خصومهم ظلت كما هي مثلما كانوا متشابكين معهم قبل نصف قرن مِن الزَّمان.
هكذا قرأنا ما كتبه الإسلاميون كافة. بداية مِن أولاد المراجع إلى النُّشطاء في حزب الدَّعوة، والإخوان المسلمين، هم على حق وغيرهم على باطل، هم يمتلكون الحقيقة دون سواهم! استمروا في عداوتهم مع أن الأسباب قد انتهت، وإن صدرت فتوى ضد الحزب الشِّيوعي في العام 1959 فإنهم ظلوا يتبنّونها في منتصف الثَّمانينيات، ونشروها في صحفهم، بمعنى الزَّمن ووحدة المحنة لا تعني شيئاً في عرفهم. كذلك الحال في خصومهم لم يراجع أحد منهم وينظر إلى تلك الصِّراعات بشيء مِن الحيادية والمعقولية، فظلوا يشيرون إليهم بعبارة قوى الظَّلام، وبالجملة إن عدم نقد المواقف السَّابقة لا يعني سوى الإصرار عليها!
هذا ما تمكّن الرِّفاعي مِن التَّخلص منه، وهو يُملي ذاكرته، وأعني أنه نقل الصُّورة مثلما كانت، بحسب ذاكرته، وأعطى رأيه فيها وهو يحمد الله أن أطال بعمره حتى هذه السَّاعة، وكأنها كانت حملاً ثقيلاً سكبه على الورق وللقارئ الحكم. سكبها، وهو يعلم علم اليقين أن وثائقَ بحجم الجبال لا تتمكن مِن إقناع متعنّتٍ برأيه، فهو على شاكلة مَن جاء في القرآن ذكرهم: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾!
وهؤلاء غير معنيين بأماليه لا مِن بعيد، ولا مِن قريب.
إنها معلومات وليست تحليلات وفلسفات، كان صاحبها شاهداً عياناً ومشاركاً في خلق حوادثها، لكلِّ هذا كان اهتمامنا وسعينا إلى إصدار هذه الأمالي. تدخّلنا في السُّؤال مِن أجل شحذ الذَّاكرة، ولم نتدخل في المعلومة، وما أراد نشره وما طلب إهماله.
تتضمن أمالي السَّيد طالب الرِّفاعي ستة عشر فصلاً، تتفرع إلى عدة عناوين: فبعد المقدمة يتحدث عن نشأته الأُولى، وكيف أنه كادت أن يكون ماركسياً، وهو في المدرسة الابتدائية، لولا كتاباً قرأه فنجاه منها، حسب عبارته، وكيف هاجر إلى النَّجف، بعد أن لم يستقر له حال بالكاظمية وكربلاء، واعتمر العمامة فصارت بالنسبة له أعز مِن التاج، كان مغروراً بها أيما غرور فمعتمرها بالعادة يسمى عالماً، مهما كانت درجة علمه.
في الفصل الرَّابع يتحدث عن صلاته وصداقاته بالإخوان المسلمين وحزب التحرير، متحدثاً عن عدد مِن الشيعة انتسبوا إليهما قبل تأسيس حزب الدعوة الإسلامية، وكيف رُشح لرئاسة الإخوان المسلمين، على سبيل التعاضد في العمل الإسلامي بين الشيعة والسُّنَّة، ثم يظهر كتاب للشيخ النبهاني في الخلافة فيظهر الفصل الطائفي، وهنا يكون من المؤكد أن الإسلام السياسي طائفي بامتياز، وسعى لدى المرجعية بالنجف لإنقاذ سيد قطب من حبل المشنقة، في التدخل لدى جمال عبد النَّاصر.
عاصر وبتفاعل ما حصل بعد 14 تموز 1958، وكان مِن اشد أعداء الحزب الشيوعي وعبدالكريم قاسم (أُعدم 1963)، وساهم في تأجيج الرأي العام الديني، وفي تشكيل جماعة العلماء، قبل تأسيس حزب الدَّعوة بعام واحد، في الفصل السادس تحدث عن تأسيس حزب الدَّعوة، بمعلومة لن يرضى عنها الحزب القائم حالياً، فهو يعتبر تأسيس الحزب ردة فعل على الند اليساري الماركسي، ويعين يوم التأسيس بالرابع عشر أو الخامس عشر 1959، بينما حزب الدَّعوة يضع لتأسيسه تاريخاً بعيداً عن التأثير والمؤثرات، بمناسبة المولد النبوي العام 1957، وهو ما يرفضه جملةً وتفصيلاً.
تحدث في الفصول الأخرى عن صلاته على جنازة شاه إيران، وعن علاقته بالمرجع محمد كاظم شريعتمداري (ت 1985)، الذي يُعد أحد أبرز المناصرين للثورة الإيرانية، وهو الذي أنقذ الخميني من حكم الإعدام، إلا أنه مات تحت الإقامة الإجبارية في مدرسته من قبل الثورة الإيرانية نفسها. ثم تحدث مرجع الأهواز محمد طاهر الخاقاني (ت 1985)، المرجع العربي المعروف، الذي نصر الثورة الإيرانية بقطع مد النفط من الأهواز، وكان جزاؤه الإقامة الإجبارية أيضاً.
في أمالي السيد طالب الرفاعي معلومات وكشف مواقف تكاد تندثر لولا ما جادت به ذاكرته، وهو يربو على الثانية والثمانيين. صدر الكتاب عن دار مدارك 2012، في أكثر من أربعمائة صفحة. (مقتطفات من مقدمة الكتاب)