إيلاف-الأحد 29 أبريل 2012
في كتابه المعروف ” سيكولوجية الجماهير” يقول الطبيب والمؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون(1841-1931) مؤسس”علم نفس الجماهير”، بان الجماهير بحاجة الى من يقودها ويحميها لانها عبارة عن قطيع لا يستطيع الاستغناء عن راع يقوده”. ومعنى هذا ان الجماهير لا تفكر عقلانيا، وهي معرضة للتأثير العميق، ومن يعرف ايهامهم يصبح سيدا عليهم. فالجمهور ” غالبا ما يكون من دون ذاكرة” فلا تحاسبه وتتغاضى عن الوعود التي لا تتحقق. كما يعتقد لوبون بان جميع كوارث الماضي القريب التي منيت بها فرنسا وكل هزائمها و الصعوبات التي تواجهها تعود الى هجوم الجماهير على مسرح التاريخ وعدم معرفة مواجهتها.
ان اكتشاف ظاهرة الجماهير تزامنت مع صعود الجماهير الشعبية على المسرح السياسي الاوربي في القرن الثامن عشر، وخاصة في فرنسا، كحقيقة واقعة هددت النظام الاجتماعي القائم ودفعت كثيرا من المفكرين لدراسة هذه الظاهرة الجديدة وتحليلها. وبحسب لوبون فالجماهير اشخاص شاذين وهامشيين في المجتمع وهم ” رعاع واوباش وسوقة”. والجماهير مجنونة بطبيعتها فهي تصفق بحماس شديد لمطرب او لفريق كرة قدم او لزعيم مشهور يقودها. والجماهيرالمتهيجة قد تهاجم شخصا دون ان تتأكد من انه هو المذنب. فالجماهير مجنونة ومجرمة وخارجة على القانون، تهجم وتقتل وتسلب كل شيء. انها تجسيد للعنف الهائج دون سبب.
ينطلق غوستاف لوبون من فرضية مؤداها بان هناك مشاعر بدائية مضادة للحضارة، وهي موجودة في منطقة سحيقة من الذات ومخفية وقريبة من اللاوعي، فاذا تحررت هذه المشاعر(البدائية) فسوف تتفجر بقوة، وقد تحول الناس من افراد الى جمهور ينصهر افراده في روح جماعية واحدة وعاطفة مشتركة واحدة تقضي على خصائص ومميزات الشخصية فتذوب فيها وبذلك ينخفض لديها مستوى الملكات العقلية.
البطل والجمهور
يعتقد لوبون بانه لا توجد جماهير من دون قائد، ولا يوجد قائد من دون جماهير. وان تحريض القائد او البطل المحرك للجماهير تشيه تماما لتلك التي يتعرض لها الانسان أثناء التنويم المغناطيسي. فالجماهير تخضع للقائد الذي يفرض نفسه عليها بواسطة القوة وليس الاقناع، فهو يجذبها بسحره وشخصيته، تماما مثلما يفعل المنوم المغناطيسي بمريضه. ويخلص لوبون الى ان جميع المصائب التي حلت بالبشرية، انما جاءت من مفهومين اساسيين هما: البطل والجمهور. كما اعتقد بان الفاشية والنازية والشيوعية هي تنظيمات فوضوية تخاطب الطبيعة السفلى من الوعي، في محاولة لاعادة الاعتبار للذات وعدم تحويلها الى “صفر” داخل كائن هائل هو الجمهور.
كما يرى غوستاف لوبون، بان الجماهير بحاجة الى من يقودهم ويحميهم، لانهم، أي الجمهور، عبارة عن قطيع لا يستطيع الاستغناء عن راع يقوده . وهذا يعني ان الجمهور لا يفكر عقلانيا دوما وانه معرض للتأثير العميق. فهل حقا ان الجمهور بدون ذاكرة و “عقل”؟! والى من نوجه اصبع الاتهام: الى الجمهور ام الى القائد؟
ورغم المغالات والتعميم الذي جاء به غوستاف لوبون في نقده لعصر الجماهير، فهل نتغاضى عن وعود القائد التي لم تتحقق؟ ولكن عندما يفقد القائد قوته وينهار جبروته ويدخل خانة الضعفاء تدوسه الجماهير باقدامها وتضربه بنعالها، وهي نفسها التي كانت تعتبره القائد الملهم والضرورة. والسؤال الذي يفرض نفسه: هل ان دور البطل ( الكارزما) لا يبرز الا كمعادل موضوعي.؟ ربما نجد الجواب في نوعية الثقافة السائدة وتخلف المجتمع وكذلك في نظام الحكم الشمولي، كل تلك العوامل مجتمعة لها اهمية استثنائية في تشكيل سمات وخصائص الشخصية الكارزمية.
ولكن السؤال الاخر الذي يفرض نفسه ايضا: هل يمكن الفصل بين طرفي المعادلة: القائد والرعية؟، وما هو دور الجمهو وهل يبحث الجمهور في لا وعيه المضطرب عن رمز ملهم يفجر به ثقته بمكامن قوته؟. وبالمقابل فان ظهور القائد على مسرح الاحداث ليس سوى استجابة لحاجة الجماعة الى رمز تبايعه؟
هذه التساؤلات لا تجيب تماما على اسباب الخلل وانما تميط اللثام عن حقائق كثيرة منها ما يرتبط بالخارطة السيكولوجية “للدكتاتور” وسلوكه النفسي والسياسي والعسكري، مثلما تميط اللثام عن عوامل اجتماعية وثقافية وسياسية هامة تتداخل بعضها مع البعض الاخر في تشكيل شخصية ” الكارزما” وسايكولوجية الجماهير.!
ان العلاقة المعقدة بين السلطة والفرد تشير الى واقع يتحول الافراد فيه الى مجرد رعايا لا تقوى على مواجهة الواقع وتحدياته، حيث تحاصر السلطة الانسان من كل مكان وتضطره للاهتمام بأمور حياته وشؤون عائلته والركض وراء مصدر رزقه والحفاظ عليه
وتوجيهه. وهو يضطر الى ان يساوم عليه ويتكيف معه ومع الواقع المرير بدلا من تغييره، لأنه يشعر بانه غير قادر على السيطرة على وجوده، وهو ما يجعله عاجزا ومهمشا لا حول له ولا قوة.
ان عملية التكيف والعجز هي عملية تغبية وغسل الدماغ وتجهيل. وهي عملية يمكن توضيحها بعملية الارتداد على الذات، فالضحية تعيد انتاج قيم الاستبداد ومعاييره، كاحتقار المواطنين وامتهان كرامتهم وقدراتهم وكذلك انسانيتهم وعزلهم عن مصادر ثقافتهم وتراثهم وتعويدهم على الرضوخ للأوامر القسرية والاذعان لها. ومثل هذه الاساليب والوسائل القمعية هي في الحقيقة الغاء لانسانية الانسان واجتماعيته معا وتمييع لشخصيته وقدراته وإذلاله وجعله كيانا فارغا أوإمعة مسلوب الارادة، بحيث يشعر وكأنه ممتلخ من مجتمعه وطبيعته الانسانية، ويصبح عاجزا نكوصيا ومعتاد على قهر نفسه وإذلالها والدوس على كرامته، حتى يذعن لها. وهكذا يشعر المرء بالاغتراب، فتنهار امامه الحدود والسدود، فيحيط به الخوف والقلق، حتى يصل الى حالة من العجز التام والاستلاب.
روح الجماعة
والسؤال الاخر الأهم هو: هل ان كل تظاهرة جماهيرية تحمل في داخلها بذور عنف قابلة للنمو والانفجار تحت ظروف معينة؟ وهل ان “قانون الجماعة” يثير في الفرد غرائزه الأكثر بدائية ويحرك عدوانيته بمجرد تواجده في جمع غفير من الناس ويحوله الى “حشد” ما ويقود في الأخير الى ما يدعوه غوستاف لوبون”روح الجماعة”؟! وهل من المفروض ان تقود كل تظاهرة الى “حشد” محكوم عليه بالاستسلام لروح الجماعة وبدائية الغرائزالعدوانية. وهل يلعب القائد أو الزعيم(الكارزما) دورا حاسما، كما حدث في زمن الفاشية في ايطاليا والنازية في المانيا والصدامية في العراق والقذافية في ليبيا؟ حيث تحول عنف شخص، وجد اندفاعة في الجماهير، الى عنف جماعي. وهل ان قدرة القائد على المخاطبة والاقناع والايحاء بالقوة والتنظيم والعاطفة تلعب دورا هاما؟
يبدو ان العامل الحاسم هو عامل شرطي يولد انعكاسات من الخوف المركب(عند الجمهور) والايحاء الانفعالي (من القائد) معا.فقد اتخذ هتلر مثلا وسيلة بسيطة للسيطرة هي “الاقناع بالقوة”، وهو نوع من الاغتصاب النفسي عن طريق الدعاية العاطفية القائمة على الخوف والاعلان عن ان الوطن في خطر ورفع شعارات مؤثرة تدغدغ العواطف مثل العدالة والحرية والحقيقة مع تلوينها بمنطلقات أسطورية.
يقول بول ريكور، ان عنف النفس البشرية الفردية اذا ما انتظم في عنف الجماهير فسوف يتغير من حيث الحجم والقياس، مع انه يعتمد على حالة الفرد النفسية كالخوف والعاطفة والجنس، كما ان العناصر المصعدة كاللجوء الى الشعارات التي تدغدغ العواطف والموسيقى والاغاني والرقص الشعبي وكذلك مظاهر الجمال الأنثوي والفرح والبكاء وغيرها التي تستخدم في التظاهرات الجماهيرية، تلعب دورا كبيرا في تزايد الالتحام والتأييد. ومن الممكن تحويلها الى شعارات عنف ثورية عند استغلالها وذلك بتحويلها الى صرخات وهتافات وتصفيق لتأييد القائد والتي تسهل قيادة الجماهير وجعله قطيعا يركض وراء زعيم منحته ثقتها واستسلمت له استسلاما مطلقا.
اذن، من يصنع التاريخ.. القادة أم الجماهير؟!
فبالرغم من التطور والتقدم الحضاري للعصر الحديث فما زالت هناك مجتمعات ذات بنى تتسم بالتخلف وتفرز بنى اجتماعية ونفسية على النسق نفسه. فهي من جهة مجتمعات ذات سمة تبعية للخارج, ومن جهة اخرى ذات انظمة اوتوقراطية (دكتاتورية) من مميزاتها التفرد بالسلطة واخضاع الناس للطاعة العمياء.
هذه الاشكالية تدفعنا الى محاولة لرسم صورة للاوجه المتعددة للبطل (الكارزما) الذي يولد من رحم ظروف تاريخية ونفسية وعصبية , اي في اوقات الازمات الحادة التي من مظاهرها التفكك والعجز والخضوع والتي تترك شعوبا موغلة في الحضارة الى ان تسلم زمام امورها الى مجرد ” فرد ” دون غيره والانقياد الاعمى له. فما هو السر الخالد والفطري الذي يدفع الى هذا التفاعل بين القائد والاتباع؟ وهل البطل من صنع الظروف الاجتماعية ام من خصائص القيادة ” الكارزمية”؟وما هي المؤهلات الاستثنائية التي تؤهله لان يشبع الطموحات الجماعية؟.
ان تسليط الضوء على هذه الاشكالية يكشف لنا ” لعبة القائد” مع “الجماهير” وما ينتابها من شد وجذب وانقياد اعمى ومغالات تعكس ثنائية التسلط والخضوع.
فهناك خصائص معينة تحدد انماط القادة ومؤهلاتهم والاستراتيجيات التي تتخذها الشخصية الكارزمية. وهناك سمات ذهنية ونفسية للكارزما بصورة عامة ولبعض القادة المعروفين في العصر الحديث وكذلك مواصفات رئيسية في بناء القوة والسلوك القيادي، الى جانب نوعية المجتمعات المنتجة لمثل هذه الوضعيات، قادة وجماهير، التي تساعد في تشكيل ثنائية التسلط والخضوع.
وهنا يثار سؤال مركزي هو: من يصنع الافكار ( التاريخ)؟ “وهل ان تاريخ العالم إلا سيرة الرجال العظماء؟” كما يقول توماس كارليل؟! ولكن من هم هؤلاء العظماء؟ وهل يمكن الفصل بين طرفي المعادلة: القائد- الاتباع؟ انطلاقا من ان الجمهور، عبر التاريخ، يبحث في لا وعيه المضطرب عن رمز ملهم يفجر به ثقته بمكامن قوته، وبالمقابل فان ظهور القائد ليس سوى استجابة موضوعية لهذه الحاجة الجماعية. ومعنى ذلك ان القائد ” يولد على سرير حاجة الجماعة الى رمز يبايعه”. هذه المقدمات تذكرنا بالقادة الذين طبعوا الفتره التي عاشوها، فصورة هتلر لا تنفصل عن ذكر المانيا، وكذلك ستالين عن روسيا وصدام حسين عن العراق.
ان تشريح الخارطة النفسية لشخصية الكارزما يميط اللثام عن حقائق كثيرة ترتبط بسلوكه القيادي والسياسي وحتى العسكري، وهذا لا يلغي عوامل الثقافة السياسية التي تتدخل سلبا وايجابا في تشكيل شخصية القائد. غير ان الاسلوب الذي تتم فيه عملية تلقيه هذه الثقافة، يظل محكوما بموروثات سيكولوجية تتدخل بدورها اثناء استيعابه للمعرفة والحقيقة.
ما هي اذن امكانيات التغيير في مثل هذه المجتمعات؟! لم يتطرق لوبون الى هذا السؤال الحرج وعلينا مراجعة ما ما كتبه عالم النفس الاجتماعي النقدي اريش فروم الذي عالج ثنائية التسلط والخضوع التي تظهر بصورة واضحة في البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تتسم بالعجز والركود وتفرز بنى اجتماعية ونفسية على النسق نفسه وتفرض مناخا عاما على جميع عناصر المجتمع. فعلى الصعيد السياسي وجود انظمة اوتوقراطية – استبدادية تفرخ دكتاتوريات تجبر الناس على الخضوع للسلطة عن طريق الثواب والعقاب وفق القانون الذي ينتجه الدكتاتور نفسه، وعلى المستوى الاقتصادي يزداد التفاوت بين الطبقات وينخفض الدخل وكذلك مستوى الثقافة والتعليم والصحة وغيرها. كل هذه الامور تساهم مجتمعة في انتاج بنية نفسية سادية – مازوشية تقود الى استلاب الثقافة واغتراب الشخصية وتكون ارضا خصبة لضهور مثل هذه العلاقة الثنائية بين التسلط والخضوع، التي تنشأ عن وضعية حاكم متسلط سادي واتباع مازوشيين يقدمون له الولاء والطاعة المطلقة وبدون تفكير عقلاني.
ان البطل الكارزمي الذي تفرد له بعض الشعوب صفحات مشرقة في تراثه البطولي، تضع له مقياسا وشروطا كي يكون موضع احترام وتبجيل، وهوحصرا من يستطيع ان يقوم باعمال خارقة يعجز عنها الانسان العادي، وليكون جديرا بان يصبح مثالا للعدل والشجاعة والمروءة فلا يلجأ الى الغدر والخيانة. غير ان دور البطل الكارزمي لا يبرز الا كمعادل موضوعي لعجز المجتمع عن توليد بطولة جماعية.
المصادر:
غوستاف لوبون، سيكولوجية الجماهير (ترجمة هاشم صالح)، بيروت، دار الساقي1991
فرنسوا لوجا نور، وجوه العنف المتعددة، في المجتمع والعنف، دمشق 1975
منى خويص، وجوه القائد، دار الساقي، بيروت 2005