يملك النظام السوريّ براعة لافتة للنظر في تغيير الدلالات المفهوميّة للكلمات. صحيح أنّ تسمياته تبقى أقلّ رعونة من تسميات صدّام حسين، صاحب «أمّ المعارك» و»المنازلة الكبرى»، كما أنّ قاموسه أقلّ مَسرَحةً من القاموس القذّافي في «الجماهيريّة» و»إسراطين» وسواهما. أمّا «النصر الإلهيّ» الذي قال به السيد حسن نصرالله فيبدو أنّه احتكار لبنانيّ غير قابل للتصدير. مع ذلك فدمشق الرسميّة ليست قصيرة الباع في صناعة الكلام الملتوي. وكلّ من يذكر (وهل يُنسى) ثالوث «الوحدة والحرّيّة والاشتراكيّة»، وما آل إليه على أرض الواقع، يلحظ حجم العدوان الذي تعرّض له العقل في سوريّة. وهناك، بالطبع، قاموس من الكلمات الأخرى التي تعني كلّ واحدة منها نقيضها، من «بطل الجولان» إلى «انتصار تشرين» إلى «مجلس الشعب»…
في الآونة الأخيرة تعزّز هذا «الكلام الجديد» (والتعبير لجورج أورويل) بمصطلح «معارضي الداخل»، وذلك في بلد لم يتورّع حكّامه، قبل الإجراءات الأمنيّة التي استدعتها «غزوة» 11 أيلول، عن اغتيال معارضي الخارج (صلاح الدين البيطار، بنان العطّار…)!. لكنّ «معارضي الداخل» هؤلاء لم يعودوا مجرّد تعبير فارغ، بل صاروا، منذ ثلاثة أيّام، يشاركون في الحكم وفي الحكومة التي شكّلها السيّد رياض حجاب. والأخير، لولا الصورة، واستناداً إلى الخبرة مع النظام السوريّ وطرق اشتغاله، إنّما يجوز الشكّ بوجوده نفسه. لكنْ هنا لا بدّ من الإشارة، أيضاً وأيضاً، إلى العبارة التي لا تقلّ عن أخواتها اعتداء على العقل، والقائلة إنّ الحكومة الجديدة تلي «انتخابات شعبيّة عامّة» و»دستوراً جديداً».
على أيّة حال، فممثّلا «معارضة الداخل» في الحكومة ليسا أقلّ من آلة النظام قدرةً على تغيير المعاني والدلالات. وهما بدورهما صادران عن تجربتين في الحزبيّة التوتاليتاريّة يُعتدّ بهما ويُفتخَر. ذاك أنّ هذه «المعارضة»، وبحسب وصفها نفسَها، ترفض إسقاط النظام وتطالب بـ»الإصلاح السياسيّ والقضاء على الفساد»، وهو عنوان يصلح أن يكون بنداً في برنامج سياسيّ في إيطاليا واليونان الديموقراطيّتين. لكنّ اللقب المتواضع الذي يحمله واحدهما، السيّد قدري جميل، لا يقلّ عن رئاسة «الجبهة الشعبيّة للتغيير والتحرير» و»حزب الإرادة الشعبيّة»! أمّا ثانيهما، السيّد علي حيدر، فـ»رئيس الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ» الذي لا يجرؤ على الإشارة إلى اختلاف «الأمّة السوريّة» التي يقول بها عن «الأمّة العربيّة» التي يقول بها البعث (حلّ السوريّون القوميّون هذه المعضلة بالكلام عن «أمّتنا» والعالم العربيّ).
تصل مهزلة المعاني والدلالات إلى ذروتها مع التدقيق في المنصبين اللذين تولاّهما ممثّلا «معارضة الداخل» في الحكومة: فقدري جميل هو «نائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصاديّة ووزير التجارة الداخليّة وحماية المستهلك». يحصل هذا التعيين الطويل والفضفاض في ظلّ كارثة تحيق بالتجارة الداخليّة واقتراب الاستهلاك من الصفر. أمّا حيدر فاختُرعت له حقيبة «وزارة دولة لشؤون المصالحة الوطنيّة»، كما لو أنّ مطلقي كذبة «معارضة الداخل» يمثّلون تصديقهم لكذبتهم وينتدبون واحداً من رموز تلك «المعارضة» لرعاية «المصالحة الوطنيّة» بين السوريّين.
إنّ بطن الكذب، والحال هذه، أخصب من أن تحدّه عقول ضعيفة الخيال كمثل عقولنا.