ليست عملية سحب الثقة من الحكومة سوى إجراء طبيعي تلجأ إليه المعارضات في الديموقراطيات البرلمانية، وهو غير متوافر في الديموقراطيات الرئاسية إذ تضطر المعارضة فيها للتعايش مع الرئيس حتى وإن كانت تتمع بالغالبية في البرلمان. الرئيس في الأنظمة الرئاسية يقضي ولايته حتى نهايتها، إلا إذا ارتكب مخالفة قانونية واضحة كما حصل للرئيس الأميركي نيكسون، عندها سيقال عبر القضاء أو يستقيل، أما رئيس الوزراء فهو وإن حُددت ولايتُه بخمس سنوات كحد أقصى، فإن بالإمكان إنهاء حكومته عبر إجراء سحب الثقة أو اللجوء إلى انتخابات مبكرة، والإجراء الأخير عادة ما يقرره رئيس الحكومة نفسه، وإن كان رسمياً يتم بأمر من الملك أو الرئيس بحل البرلمان.
في الديموقراطية العراقية الأمر مختلف تماماً. فالأزمة السياسية المستعرة في البلاد منذ الانسحاب الأميركي أواخر العام الماضي ناتجة عن غياب الثقة بين الكتل السياسية التي تمثل «المكونات» العراقية. وغياب الثقة ليس جديداً، بل هو قائم منذ البداية، وحتى أيام المعارضة، إلا أن الوجود الأميركي كان يشكل عامل توازن يطمئن اللاعبين الرئيسيين. وعندما غاب الأميركيون، اختل التوازن بعد أن أصبح القرار عراقياً يتخذه منتمٍ إلى هذه الكتلة أو تلك. والحقيقة أن الجميع مشاركون في الحكومة، كل وفق حجمه البرلماني، إلا أنهم، باستثناء كتلة رئيس الوزراء، مستاؤون منها ويحاولون إسقاطها.
والغريب أن الكتل التي تسعى لسحب الثقة من الحكومة لم تجرؤ على سحب وزرائها منها كما فعلت سابقاً. والسبب هو أن هذا الإجراء لم يجدِ نفعاً في السابق، إما لأن الوزراء لم يمتثلوا لقادتهم السياسيين مفضلين البقاء في مناصبهم، وهذا حصل في الانسحاب الأول عام 2007 عندما اختار وزراء مساندة المالكي ضد كتلهم السياسية التي جاءت بهم إلى الحكومة، وبعضهم انضم إلى قائمته في الانتخابات اللاحقة، أو لأن رئيس الوزراء سيكلف وزيراً آخر من كتلته بتسيير شؤون الوزارة الشاغرة، ما يعطيه وكتلته سلطات إضافية.
أما عملية سحب الثقة، فتتم عبر طريقتين وفق المادة 61 – ثامناً – ب من الدستور. الأولى أن يرسل رئيس الجمهورية رسالة إلى البرلمان يدعو فيها إلى سحب الثقة، والثانية هي أن يتقدم خُمس أعضاء البرلمان، أي 65 نائباً، بطلب سحب الثقة على أن يسبقه استجواب لرئيس الوزراء. خصوم رئيس الوزراء لجأوا إلى الوسيلة الأولى، لكن العقبة التي واجهتهم كانت رفض الرئيس إرسال تلك الرسالة إلى البرلمان على رغم موافقته مبدئياً. وكي يقنعوا الرئيس، جمعوا تواقيع ما يقارب المئة وسبعين نائباً كلهم وافقوا ابتداء على سحب الثقة، لكن بعضهم تراجع عن توقيعه لضغوط مورست عليه من هذا الطرف أو ذاك، وكان بعضهم قد وقّع أساساً نتيجة لضغوط مورست عليه من قيادته. وعلى رغم أن عدد الداعين إلى سحب الثقة، حتى بعد تراجع بعضهم، بقي كبيراً، 146 وفق بيان الرئاسة، إلا أن الرئيس بقي متردداً في إرسال تلك الرسالة، ما تسبب في إغضاب معظم أعضاء كتلته وفي مقدمهم رئيس إقليم كردستان، مسعود البارزاني. موقف الرئيس كان صعباً. فهو من جهة لا يريد إغضاب الكرد الذين أوصلوه إلى الرئاسة، ومن جهة أخرى لا يريد أن يربك العملية السياسية التي جاءت به ورئيس الوزراء في صفقة واحدة. إن أرسل طلب سحب الثقة فهو قد يدخل البلاد في أزمة أخرى ربما أكبر من الحالية وسيخسر تأييد كتلة رئيس الوزراء، وربما معها منصبه، وينهي الحلف التاريخي القائم بين الأحزاب الشيعية والكردية. كان مأزقاً حقيقياً بالنسبة له وكان بإمكان دعاة سحب الثقة أن يجنبوه هذا المأزق لو أنهم لجأوا إلى الاستجواب.
لماذا تجنب دعاة سحب الثقة وسيلة الاستجواب ولجأوا إلى الرئيس؟ لا شك في أن المرور عبر الرئيس أسهل كثيراً لهم من الاستجواب الذي يعني إعطاء رئيس الوزراء فرصة الدفاع عن نفسه في البرلمان وإلقاء اللوم على خصومه وهذا قد لا يكون في مصلحتهم. ووفق أعضاء في كتلة رئيس الوزراء فإن هناك أدلة على بطلان الأسباب التي دعت خصومه إلى خلق هذه الأزمة وأن المالكي سيستخدم فرصة الاستجواب لقلب الطاولة عليهم ما سيزيد من شعبيته ويفشل خطة سحب الثقة عن حكومته. غير أن الخصوم يقولون إن رئيس الوزراء سيلجأ إلى المحكمة الاتحادية، التي يقولون إنها موالية له، لإبطال أي إجراء يتخذه البرلمان ضده. لكن هذا الرأي لا يبدو مرجحاً، فكيف تبطل المحكمة إجراء سحب الثقة إن كان يتمتع بأكثرية برلمانية؟ لكن اللجوء إلى الاستجواب سيمنح رئيس الوزراء فرصاً كثيرة، منها مثلاً الإجابة على بعض الأسئلة تحريرياً أو حتى تجاهل طلب الاستجواب إذ ليس هناك في الدستور أو القانون ما يترتب على ذلك سوى لجوء خصومه إلى الخيار الأول الذي جربوه ولن ينجح.
الأزمة السياسية إذاً، أكثر تعقيداً مما يتصور البعض لكنها من دون شك طغت على كل شيء في البلاد وشغلت مؤسسات الدولة والمسؤولين والسياسيين والصحافيين عن أمور ملحة كانت ستعود بالنفع على الجميع وأضفت طابع عدم الاستقرار على الدولة وانعكست سلباً على علاقات العراق الخارجية وزعزعت الأمن الذي تدهور خلال الأشهر الستة الماضية إذ ازدادت التفجيرات في العاصمة وباقي المحافظات التي كانت آمنة تماماً إلى عهد قريب. هل تستحق عملية إسقاط الحكومة، التي يشترك فيها الجميع كل هذه الجهود الضائعة والوقت المهدور والثمن الباهظ الذي دفعه العراقيون ككل؟ ألم يجد الخصوم وسائل أخرى أكثر رأفة بالبلاد من هذه الفوضى؟ أما كان الأفضل لهم ولباقي العراقيين الانتظار حتى الانتخابات المقبلة وتوفير كل هذه الجهود للترويج لأنفسهم وبناء أحزابهم وتشريع القوانين الضرورية للعملية الديموقراطية كقانون الأحزاب مثلاً؟ ومن الناحية الأخرى، ألم يكن بإمكان رئيس الوزراء أن يستوعب الأزمة في بدايتها عبر تنفيذ ما تبقى من اتفاقية أربيل التي تشكلت بموجبها حكومته واللجوء إلى الطرق السياسية بدلاً من القضاء أو المواجهة لحل الخلافات مع خصومه؟ كان سيوفر على نفسه وعلى حكومته وشعبه الكثير من الوقت والجهد الذي أهدر وسيهدر حتى تنتهي هذه الأزمة بنصر «مؤزر» لأحد الطرفين على الآخر. أزمة الثقة بين الشركاء الفرقاء لن تحل إلا عبر تقديم التنازلات والتخلي عن الامتيازات والصلاحيات وهذا يبدو بعيداً من تفكير السياسيين الحاليين.