نريد إعلانا للعراقيين كلهم وليس لطائفة منهم
الزمان ومطبوعات متعدددة أخرى، 15 تموز 2002
في وقت تحتل فيه مسألة تغيير النظام الحاكم في العراق موقع الصدارة على المستويين العراقي والدولي، وتسعى فيه قوى المعارضة إلى توحيد مواقفها ورص صفوفها بهدف تكوين جبهة واحدة ضد النظام الدكتاتوري القائم في بغداد، طلع علينا مجموعة من العراقيين ببيان أسموه “إعلان شيعة العراق” وضعوا فيه تصوراتهم لإحدى مشاكل العراق في الماضي والحاضر وما يرونه مناسبا من حلول للمستقبل. ورغم أنني لا أشكك بنوايا معظم الموقعين على الإعلان، خصوصا وأن بينهم شخصيات دينية وسياسية معروفة بالتوازن الطائفي والسياسي، إلا أنه لا بد من القول إن الإعلان بطبيعته وتوقيته وضيق أفقه اختزل مشاكل العراق كلها بمشكلة واحدة هي وضع الشيعة في العراق وطرحها بالشكل الذي يزيد من تعقيدها وبما يلحق الضرر بالشيعة أنفسهم.
وحتى أتجنب الاستغراق في استعراض الإعلان، بودي أن أشير إلى بعض النقاط التي وردت فيه لأنها في رأيي تشكل خللا في تفكير واضعي الإعلان، ولا أقول موقعيه، وخطرا على مستقبل العراق والعراقيين.
1- تحدث الإعلان عن الطائفية السياسية “المتأصلة” في تركيبة الدولة العراقية، وألقى باللائمة طبعا على “الإنجليز” كما هي عادة من يريد إغماض عينيه عن الحقيقة والبحث عن تبريرات تبعده عن المسؤولية، وفي نفس الوقت “برأ” العراقيين، سنة وشيعة وطوائف أخرى، من هذه “الطائفية”. ابتداء، يجب التأكيد على أن هذا التحليل خاطئ أو على الأقل غير دقيق. فالدولة العراقية قامت على أكتاف العراقيين جميعا، ولعب الشيعة من أبناء الفرات الأوسط والجنوب دورا مركزيا في نشأتها ومن ثم بناء مؤسساتها الدستورية، وتولى الكثير منهم مناصب رفيعة المستوى بما في ذلك رئاسة الوزراء. وليس أدل على ذلك من أن عددا من الموقعين هم من أبناء أولئك الساسة من العراقيين الذين يشهد لهم التاريخ بالكفاءة والنزاهة والذين لم يعقهم انتماؤهم الطائفي من أن يكونوا وطنيين عراقيين بكل ما للكلمة من معنى، يخدمون العراق كله، أي بكل طوائفه وأعراقه وقومياته. إن القول إن الدولة العراقية كانت ذات تركيبة طائفية هو، بالإضافة إلى كونه خاطئا، فإنه يخفف من المسؤولية الكبرى التي تقع على عاتق النظام القائم في تمزيق العراق وبث روح الفرقة والطائفية والعشائرية بين أبنائه. ومن هنا فإن الإعلان، شاء موقعوه أم أبوا، لا يخدم إلا الطائفية، والمستفيد الأول منها، وهو النظام القائم الذي يسعون للإطاحة به. نعم هناك ممارسات طائفية موجهة ضد الشيعة قام بها أفراد عراقيون كانوا في مواقع المسؤولية، وإن هذه الممارسات ازدادت وتفاقمت في عهد صدام حسين الذي حاول الاستفادة من القضية الطائفية والقومية كلما واجهته مصاعب داخلية. إلا أن هذه الممارسات تبقى ممارسات أفراد لا يمكن سحبها على الدولة العراقية أو باقي أفراد الشعب العراقي من السنة، الذين اعترف الإعلان بأنهم كانوا دائما على وفاق مع إخوانهم الشيعة وأن “العراق هو نموذج للانسجام الطائفي والمذهبي” وأن “التلاحم الطائفي لأبناء العراق كان قويا لم ينل منه الأعداء”. إن الحقيقة التي يجب على الجميع أن يعرفها هي أن العراقي متميز في حرصه على الوحدة الوطنية وتفهمه للآخر تفهما ليس معهودا في الشرق كله، ومن هنا فإن العراقي الشيعي يختلف عن أي شيعي آخر في تفهمه للسنة واحترامه لمذاهبهم ودفاعه عنهم، وكذلك فإن العراقي السني هو الآخر مختلف عن السنة من بلدان أخرى بتفهمه للشيعة ومذاهبهم وأئمتهم، وتراه يدافع عن الشيعة في كل مناسبة دفاعه عن نفسه، وكل متتبع يعرف هذه الحقيقة، أما الغافل عنها فمدعو لملاحظتها.
الأكثرية الشيعية
2- تحدث الإعلان عن “الأكثرية الشيعية” مقابل الأقليات الأخرى، والذي يبدو مسكوتا عنه هنا هو “أن للأغلبية أفضلية على الآخرين أو حقوقا أكثر من الآخرين” وإلا فما هو الهدف من ذلك؟ ولماذا نتحدث في القرن الحادي والعشرين بمنطق “الأغلبية-الأقلية” الذي لم يعد له مكانا في عالم اليوم الذي يتساوى فيه المواطنون من كل الطوائف والأعراق والأجناس؟ إن السكان بمنطق الدولة الحديثة هم مواطنون متساوون أمام القانون لهم حقوق وعليهم واجبات ولا فضل لأحد على آخر إلا بمدى الالتزام بالقانون وتأدية الواجبات. ومن هنا فإن ما يطمح إليه العراقيون اليوم هو قيام نظام يعتمد الديموقراطية أساسا للحكم ويلتزم بمواثيق حقوق الإنسان الدولية ويطبقها تطبيقا حقيقيا، ولا أقل من ذلك ولا أكثر. وإذا ما تحقق ذلك فإنه سيتيح الحرية كاملة لكل عراقي أو مقيم في العراق أن يمارس طقوس الدين أو المذهب الذي يرتضيه دون خوف من أحد، وعندها لن تكون هناك حاجة على الإطلاق لـ “إعلان شيعة العراق” أو أي إعلان آخر من هذا القبيل. إن العراقيين لا يهمهم المذهب الذي ينتمي إليه الحاكم أو أفراد الحكومة ما زال هؤلاء ملتزمين بالقانون ومنفذين لإرادة الشعب.
3- قال الإعلان إن التيار الإسلامي هو الذي يمثل شيعة العراق “ضمنيا”، ولا أدري ما يقصد بهذا الكلام، إذ ليس هناك من يدعي تمثيل الشيعة لا التيار الإسلامي ولا غيره من التيارات الأخرى، لأن الشيعة، كباقي الطوائف الأخرى، يتوزعون على التيارات المختلفة، فمنهم الإسلامي ومنهم القومي واليساري واللبيرالي. لذلك فإن القول إن التيار الإسلامي يمثل الشيعة غير صحيح، وأول من يعترف بذلك الموقعون أنفسهم. كذلك فإن تعريف الشيعة بأنهم “كل من يوالي أهل البيت” هو الآخر أمر ليس دقيقا، فهناك من الشيعة من هم علمانيون وغير متدينين أصلا فكيف إذن يمكن أن يصنفوا على أنهم موالون أو غير موالين لأهل البيت(ع)، بالإضافة إلى ذلك فإن جميع أهل السنة يعتبرون أنفسهم موالين لأهل البيت، اللهم إلا قلة قليلة جدا، بل ومنهم من يتبع مذهب الإمام جعفر الصادق(ع) في بعض الأمور الفقهية.
4- تحدث الإعلان وكأن موقعيه قد حصلوا على تفويض من الشيعة لأن يتحدثوا باسمهم. وابتداء من الاسم، “إعلان شيعة العراق” وانتهاء بالتوجه والمطالبة باللامركزية، فإن مُصدِّري الإعلان تجاوزوا على حقوق أبناء الشيعة الآخرين تجاوزا كبيرا. فالموقعون على الإعلان قلة قليلة جدا من الأشخاص، بعضهم من أبناء عائلة واحدة، مما يشير إلى أن الأغلبية الساحقة من الشخصيات السياسية والدينية والفكرية وأصحاب الكفاءات المعنيين بالوضع العراقي والشيعي، غير مستعدين للتوقيع على مثل هذا الإعلان. كذلك فإن عددا من الموقعين أعلن انسحابه، وآخر أعلن أسفه، بينما رفض الكثيرون التوقيع، رغم الضغوط التي مورست عليهم، لأنهم يعرفون جيدا أن هذا الإعلان ليس في صالح العراق ولا الشيعة، ويخشون من أن يوظف مستقبلا لأهداف سياسية ذاتية ومصلحية يستفيد منها بعض الأشخاص لكنه سيضر بوحدة العراق الوطنية. وهذا ما يدعوني ويدعو كثيرين غيري إلى التعبير عن الاستغراب لأن يوقع على الإعلان شخصيات عرفت باعتدالها ومحاربتها للطائفية وعدم انجرارها وراء الدعوات غير الواضحة الأهداف على الأقل، رغم أنها لا تخفى على الكثيرين. وأستطيع القول أنني على يقين من أن الكثيرين من الموقعين قد وقعوا على الإعلان أما مجاملة، أو استجابة لدعوة شخصية على الهاتف، وأن الكثيرين منهم لم يقرءوا الإعلان أصلا.
مناقشات دامت عامين
5- ادعى موقعو الإعلان أنه جاء نتيجة لـ “مناقشات دامت عامين باشتراك ابرز الشخصيات العراقية من علماء دين وأكاديميين ومفكرين….” لكنهم أغفلوا أن هناك عددا كبيرا جدا ممن رفضوا هذه الأطروحة الطائفية رفضا قاطعا وامتنعوا عن التوقيع عليها واعتبروها دعوة لإثارة الفتنة الطائفية في وقت يحتاج فيه العراقيون جميعا إلى التركيز على قضايا مهمة ومصيرية تهم مستقبل العراق وشعبه بكل طوائفه وقومياته. وبالإمكان إبراز قائمة لها أول وليس لها آخر من المعترضين على الإعلان ومعارضيه من الشيعة أنفسهم. أما إذا خرج الإعلان عن صيغته الحالية وتحول إلى مشروع سياسي علني يحاول الاستفادة من الطائفية، كما هو متوقع، فإن المعارضة له ستكون أكبر وتبدأ من موقعيه وتنتهي بالغالبية العظمى من شيعة العراق. وعندها سيكون الإعلان قد قدم خدمة جليلة للنظام العراقي بإشغاله العراقيين بقضايا جانبية بدلا من التركيز على القضية الوطنية الكبرى. إن تقسيم العراقيين على أسس طائفية هو أمر في غاية الخطورة وله عواقب وخيمة على الوحدة الوطنية العراقية التي حافظ عليها الشيعة، كباقي العراقيين، لعقود طويلة من الزمن وصبروا على كل الممارسات الطائفية التي مورست بحقهم من قبل نفر ضال من أبناء العراق الضعفاء الذين أرادوا أن يعززوا مواقعهم ومصالحهم غير المشروعة بالطائفية أو العرقية أو العشائرية. وفي عالم اليوم لم يعد مكان لمن يقسم الناس إلى سنة وشيعة، ونحمد الله على أن العراقيين قد بلغوا درجة من النضج لم يعد ممكنا بعدها استغفالهم كي تنطلي عليهم دعوات من هذا القبيل.
6- إن إطلاق صفة الطائفية على نظام صدام حسين هي في الحقيقة “تجميل” له، لأنه لا يرقى حتى إلى ذلك، والدليل أنه أضر بالسنة والشيعة على حد سواء، وقتل من أهالي تكريت مثلما قتل من أهالي بغداد والبصرة والرمادي. وعمل الكثير ممن ينتمون تاريخيا إلى الشيعة بين أجهزته القمعية. نعم استخدم صدام الطائفية للبقاء في السلطة والقضاء على خصومه السياسيين، وحقق نجاحا محدودا في هذا المجال لكن هذه اللعبة سرعان ما تكشفت للجميع ولم تعد نافعة. لذلك فإن إثارة هذا الموضوع الآن هو بمثابة “هدية” مجانية يقدمها واضعو الإعلان للنظام العراقي الذي يلفظ آخر أنفاسه، لكن هذا “الإسعاف” لن ينفعه لأنه تأخر كثيرا.
الوحدة الوطنية
إن الشيعة الحقيقيين، وبمختلف انتماءاتهم السياسية والفكرية والاجتماعية، هم الذين يحرصون على العراق ولا يفرطون بوحدته الوطنية بأي ثمن، وليس الذين يريدون توظيف أخطاء وقع بها بعض العراقيين في الماضي لصالح أهداف ومصالح خاصة يمكن أن يبرزوا من خلالها بعد أن فشلت مشاريعهم السياسية الأخرى.
إن الإعلان الذي أطلق عليه دون وجه حق اسم “إعلان شيعة العراق” لا يمثل الشيعة العراقيين من قريب أو بعيد. وإذا كان الإعلان يدعو حقا إلى الديمقراطية واحترام حقوق جميع الطوائف والقوميات فلماذا لا تكون الدعوة للديمقراطية باسم العراقيين جميعا وليس باسم طائفة لا يستطيع أحد أن يمثلها؟ والسؤال الأهم هو لمن يتوجه هذا الإعلان؟ هل للنظام العراقي القائم الذي لا يقيم وزنا لأي رأي سواء كان دينيا أم سياسيا، أم للنظام القادم الذي يطالب العراقيون جميعا بأن يكون نظاما ديمقراطيا معبرا عن إرادة الشعب العراقي بكل طوائفه وتياراته؟
وأخيرا يجب القول إن علينا أن لا نحمِّل الإعلان أكثر مما يستحق، فهو لا يعدو كونه ورقة وقع عليها عدد قليل جدا من العراقيين ظنوا أنها في مصلحتهم ومصلحة آخرين، ودون أن يكترثوا أو ينتبهوا للأهداف التي يريد تحقيقها بعض من سعى لهذا الإعلان، وسيعلم جميع المخلصين أن لا مصلحة ترتجى من تقسيم أبناء البلد الواحد على أسس طائفية. ويجب التأكيد على أن ما يفعله هذا الشخص أو ذاك في الحكم أو خارجه لا يمثل بأي وجه من الأوجه الطائفة التي ينتمي إليها، وبالتالي لا يجوز تحميل طائفة معينة أخطاء نفر ممن ينتمون تاريخيا إليها.
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=2139#
http://www.nahrain.com/d/news/02/07/26/nhr0726i.html