الديمقراطيون في العالم العربي، على اختلاف مدارسهم الايدولوجية، نشطوا بحماس من أجل انتصار الديمقراطية، واستقبلوا بسعادة استثنائية انتفاضات الربيع الديمقراطي منذ بداية انطلاقته في تونس، حتى إذا حل موسم القطاف وأصبحوا وجها لوجه أمام استحقاقات الديمقراطية، وأختار الناخبون القوى الإسلامية للحكم، شعروا بالهلع وكفروا بالديمقراطية الوليدة، وراحوا يرددون لازمة واحدة: الديمقراطية صودرت واستحوذ عليها أعدائها وصادروها لصالحهم !!!
لماذا هذا الذعر؟ ولماذا لا يرى الديمقراطيون في العالم العربي من التحولات الديمقراطية الجارية إلا النهاية وليس البداية ؟ ولماذا لا يقرأ الديمقراطيون في العالم العربي المسارات والتعرجات والتحولات الصعبة التي عرفتها الديمقراطية في موطنها الأصلي، في الغرب، بما في ذلك الانكسارات العميقة التي طالت وجود الديمقراطية، وعمليات الانقضاض عليها في عدة بلدان أوربية: ألمانيا، ايطاليا، فرنسا، أسبانيا، اليونان، وأميركا في فترة المكارثية؟
الديمقراطيون في العالم العربي يبدون مثل أم يئست بعد أن عملت المستحيل حتى تحمل، فلما جاءها الوليد أخيرا شعرت بالهلع لأن عينيه، مثلا، سوداوان وليسا زرقاوين، أي أنه لم يأت كما تريد وتشتهي، وبدلا من وضع اللوم على نفسها وعلى الجينات الوراثية، راحت تلعن الحظ. وهكذا هم الديمقراطيون في العالم العربي: يلعنون الديمقراطية لأنها لم توصلهم إلى سدة الحكم، وأوصلت خصومهم الفكريين، وبدلا من معرفة الأسباب، راحوا ينتقدون الشعوب لأنها (جاهلة ومتخلفة).
الديمقراطيون في العالم العربي يرفضون، على ما يبدو، التوقف عند انعطافات تاريخية هي بمثابة زلازل جيوبوليتكية حدثت منذ بداية سبعينيات القرن الماضي في منطقتهم وفي العالم حولهم، وهم يتجاهلون توقف البركان الروسي الاشتراكي الذي خمدت نيرانه منذ نهاية الثمانينيات، بعد أن ظل يقذف بحممه منذ 1917،أي تقريبا، طوال القرن الماضي، وهم يغمضون العين عن القمع التاريخي الذي تعرضت له القوى الإسلامية منذ انهيار الخلافة الإسلامية في بدايات القرن الماضي.
طوال تلك الفترة تسنى لجميع الايدولوجيات الناشطة في العالم العربي أن تعبر عن نفسها وتتسيد، أحيانا، الشارع، وحتى أن يصل ممثلون عنها، في بعض البلدان العربية، إلى سدة الحكم. هذا حدث مع القوى العروبوية الناصرية في مصر، وليبيا، والجزائر، وإلى حد ما في اليمن الشمالية، ومع حزب البعث في العراق وسوريا، ومع القوى الماركسية في اليمن الجنوبية، وقبلها في العراق عندما تصدرت القوى الماركسية المشهد السياسي، بعد 14 تموز 1958. جميع هذه القوى، ومعها تيارات ليبرالية مدنية وعسكرية كانت تجد لها سندا ودعما من الاتحاد السوفيتي سابقا، بعد أن كانت الثورة الروسية قد دشنت مرحلة جديدة في تاريخ البشرية، أو حضارة جديدة، كما قال مرة برنارد شو، وألهمت شعوب الشرق في بدء انطلاقتها، في بيانها الشهير.
في بداية عام 1979 حدث الزلزال الإيراني الذي بشر المستضعفين بحياة جديدة سعيدة. وبعده بعقد أطفأت البرولويتاريا بأيديها نيران البركان البروليتاري الاشتراكي الذي قالت أنه فشل في تحقيق حياة سعيدة. وقبل أن ينتهي العام الأول من القرن الحالي (ثأر) تنظيم القاعدة للعرب والمسلمين وألحق خسارة فادحة بأكبر قوة في العالم، يكن لها العرب والمسلمون العداء، نتيجة لغطرستها وتكبرها ودعمها لإسرائيل. وقبل هذه الأحداث كلها كان المشروع الناصري قد تحول إلى هزيمة مدوية، وانفجر الخلاف الدموي بين رفاق السلاح في اليمن الجنوبية، وتلكأت كثيرا ثورة المليون شهيد في الجزائر، وواصل طغاة معتوهون ، بالحديد والنار، حكمهم وأعلنوا أنهم سيورثون الحكم إلى أبنائهم: صدام حسين، الأسد، القذافي، حسني مبارك، علي عبد الله صالح.
هل كانت كل القوى التي ذكرناها تتحمل بنفس المقدار الهزائم؟ بالطبع، لا. هل أن هذه التجارب كانت كلها فشلا، ولم تحقق انجازات؟ لا، أيضا. لكن هذه الانجازات، وبعضها مهمة جدا، تحولت إلى جزر ابتلعتها مياه الفشل المدوي الذي لحق بالمشروع الحداثوي النهضوي، بعد أن توزعت، أو وزعت عمدا مسؤولية الفشل بحجم متساوي على الجميع، أي بين الحكام الطغاة وبين القوى المدنية (العلمانية) التي كانت تعاني من الاضطهاد، باعتبار أن الجميع علمانيون.
القوى الوحيدة التي ظلت مختبئة هي قوى الإسلام السياسي، بكل ألوانها، إذ ظلت بعيدة عن الحكم ولم تلوثها تفاصيله اليومية، وظلت محرومة حتى عن العمل المعارض الشبه علني، أما بسبب قمع الحكام، أو لأن المزاج الشعبي في العالم العربي كان ميالا لقضايا الحرية والتحرر الوطني، والكرامة الوطنية، وبناء الدولة القومية، و إعطاء الأولوية للصراع الطبقي، أو السببان معا. وهكذا ظلت القوى الإسلامية ينظر لها الناس باعتبارها، في آن واحد، ضحية مظلومة، وجهة طهرانية، عفيفة، نقية، والتي، إن وصلت إلى الحكم ستملأ حياتهم عدلا، بعد أن ملأها العلمانيون (هكذا دون تفريق بين العلماني الحاكم القامع والعلماني المحكوم المقموع) ظلما وجورا، وتعيد لهم هويتهم الأصيلة التي صودرت نتيجة الهيمنة الأورو- أميركية.
الآن، ومنذ بداية الربيع، جاء دور هذه القوى الإسلامية، فتسيدت المشهد السياسي، وسدت الفراغ القائم، ووصل بعضها إلى الحكم. لكن الحقيقية التي لا يعيرها الديمقراطيون أهمية استثنائية تستحقها هي، أن هذه القوى الإسلامية لم تصل إلى الحكم بفضل آلية دينية مستنبطة من النصوص القرآنية والسنة النبوية، وإنما آلية مدنية هي، أصلا من اختراع الدولة (الكافرة)، أي الديمقراطية وصناديق الانتخابات. وقد بدأنا نسمع، وعلى لسان القوى الإسلامية الأكثر تشددا، من يقول: (دولة كافرة عادلة خير من دولة مسلمة ظالمة).
الأمر الآخر هو، أن الظهور العلني للقوى الإسلامية كشف هشاشة (الوحدة) التي كانت تربط بين مكوناتها، وبالتالي التباينات بينها، وبعضها كاد أن يتحول إلى صدام دموي (الأخوان والسلفيون في مصر وتونس).
الأمر الثالث هو، أن المشروع الحداثوي المدني (العلماني) الديمقراطي لم يهزم، وما يزال يشكل مصدر إلهام وأغراء حتى للقوى الإسلامية. فالحديث، أو بالأحرى (الدرس) الذي ألقاه أردوغان أثناء زيارته للقاهرة في 13/09/2011، على مسامع أخوانه (الأخوان)، والذي أكد خلاله بأن “الدولة العلمانية لا تعني اللادينية، وإنما تعني احترام كل الأديان وإعطاء كل فرد الحرية في ممارسة دينه”، كان تبجيلا صريحا وواضحا للدولة العلمانية، ومواقف راشد الغنوشي وتصريحاته، خصوصا أثناء حملته الانتخابية، وكذلك بعدها، تصب، ولو بدرجة متفاوتة، في نفس الخانة. ولو رصدنا ردود الفعل المبدأية القاسية من قبل أخوان مصر على خطاب أردوغان، وبين تصريحاتهم ووعودهم و مواقفهم البراغماتية المتقلبة التي عبروا عنها حتى الآن كي يصلوا إلى الحكم، تكشف تأييدهم/ تملقهم للفكر المدني الديمقراطي، ولا ننسى الوثيقة التي أصدرها، أو أضطر لإصدارها أخوان سوريا. ولولا الخشية من الوقوع في المبالغة لقلنا إن قوى الإسلام السياسي، صاحبة شعار الإسلام هو الحل، هي التي نجدها في موقف دفاع، رغم أنها المنتصرة، وبعضها وصل إلى الحكم، وليس الديمقراطيين. الديمقراطيون، أو الأصح الفكر الديمقراطي، ما يزال في موقع الهجوم. ولكن الهجوم والتراجع لا يحدثان بالرغبات والأماني، إنما تخلقهما موازين القوى ضمن عملية صراع أزلية، تدوم ما دامت الحياة. والمرحلة الأولى للصراع الذي نتحدث عنه تحسمها إجابات القوى الإسلامية، بطريقة لا ليس فيها، على أسئلة جوهرية، مثل: هل أن الإسلاميين مع الديمقراطية كفلسفة متكاملة للحكم وللحياة، أم أنهم يتعاملون مع الديمقراطية بطريقة انتقائية، يأخذون منها ما يفيدهم ويرفضون ما لا يفيدهم. هنا يكمن أس الصراع القادم بين الديمقراطيين والإسلاميين، وهو، كما قلنا، صراع لا يجد حلا له غدا، ولا يتوقف بعد غد، إنما هو صراع يومي أبدي.
http://www.elaph.com/Web/opinion/2012/7/745849.html