هل يُراد لنا أن نعيد اكتشاف الجاذبية؟
صحيفة الزمان اللندنية- تشرين الاول 2003
شاركت الأسبوع الماضي في جلسات مؤتمر حزب العمال البريطاني الحاكم الذي عقد على مدى أسبوع كامل في مدينة بورنموث الساحلية الجميلة، ولكن المتعِبة بسبب تلالها الشديدة الانحدار مما يجعل التنقل فيها أمرا عسيرا إلا لهواة تسلق الجبال والتلال وأنا لست واحدا منهم.لم تكن مشاركتي هذا العام بدعوة من أحد بل كانت رغبة مني في مزيد من الاستطلاع بعد الأثر الطيب الذي تركته في نفسي مشاركتي في العام الماضي، التي جاءت بطلب من جمعية متآلفة مع الحزب. لذلك فقد لاقيت هذا العام بعض الصعوبة في الحصول على إذن بحضور جلسات المؤتمر، لأنني لست عضوا ولا مدعوا من أي جهة. لكن تلك المشكلة حسمت بعد أن تدخلت إحدى المؤسسات الإعلامية البريطانية لصالحي وطلبت مشاركتي ممثلا عنها، عندها اعتذر لي موظف الأمن قائلا “يؤسفني أنني لم أشاهدك في التلفزيون من قبل فإنا لا أشاهد سوى تلفزيون بي بي سي، وهذه فرصة علمتني أن العالم أوسع كثيرا من البي بي سي”. فقلت له لا تهتم فالبي بي سي هي “أمنا جميعا وأنا شخصيا مدين لها بالكثير فقد كنت أعمل فيها”. وفي النهاية وعد الرجل أنه سيشاهد قناة “سكاي نيوز” العالمية، كي يوسع من معلوماته!
حضرت كل مناقشات الحزب والكلمات المهمة التي ألقيت به وأهمها كلمة رئيس الوزراء، توني بلير، الحماسية التي زادت من ثقة الأعضاء به كسياسي بارع سيؤمِّن لهم الفوز في الانتخابات المقبلة، وزادتني ذهولا بقدرة هذا الرجل العجيبة على الإقناع واستخدام النكتة السياسية لإيصال رسالته إلى أعضاء حزبه. قال لهم بلير “إن العمل في المعارضة لا يتضمن سوى التحدث إلى الناخبين وإلقاء اللوم على الحكومة. بعض نواب حزب العمال لا يزالون يفعلون الشيء نفسه”. هذه العبارة جعلت المؤتمر ينفجر بالضحك ثم التصفيق، فهي إلى جانب كونها نكتة بارعة فإنها كانت تحذيرا لنواب الحزب بأنهم الآن في الحكومة وأن عليهم أن يكونوا أكثر حذرا في ما يقولون وأكثر ولاء للحكومة ولزعامتهم السياسية. حول العراق، قال بلير إنه لم يستطع تجاهل المعلومات التي حصل عليها عن طريق الاستخبارات وإنه اتخذ القرار وسيتخذه مرة أخرى لو واجه مأزقا مماثلا. وقال إنه يحترم الذين يختلفون معه، ومهما كان الاختلاف فإن هناك أمرا يتفق عليه الجميع وهو أن “العراق أفضل بكثير دون صدام حسين”، إذ لا يمكن تجاهل ما فعله هذا الرجل وابناه بالعراق والعراقيين.
في اليوم التالي نوقشت قضية العراق باستفاضة وكنت قبل بدء المناقشة أخشى من أن يخسر بلير أمام معارضيه إلا أنه، وعندما احتد النقاش، لم يستطع المعارضون أن يبرزوا أدلة مقنعة على معارضتهم للحرب سوى أنها لم تحظ بموافقة مجلس الأمن الدولي. ومما حسم النصر لصالح بلير هو الخطاب الذي ألقته النائبة العمالية المعروفة، آن كلويد، المهتمة بالقضية العراقية منذ زمن بعيد، التي قالت إنها كانت تطالب بإزالة صدام حسين منذ عام 1979. ثم تحدثت كلويد عن المقابر الجماعية وانفجرت بالبكاء أثناء وصفها لقبر جماعي في الحلة ضم خمسة عشر شخصا بينهم أطفال، مما ترك أثرا كبيرا على المشاركين في المؤتمر. وفي هذا درس لإخواننا العرب الذين لم يكترثوا حتى الآن بالمقابر الجماعية، وكأن العراقيين ليسوا بشرا يستحقون التعاطف.
وكعادة الحزب فقد استضاف في اليوم الرابع شخصية عالمية، وكانت شخصية هذا العام الرئيس الأفغاني حامد كرزاي الذي لقي استقبالا حارا من المؤتمرين، إلا أنه لم يرقَ بأي حال إلى مستوى الترحيب الذي لقيه بيل كلنتِن العام الماضي الذي فاق كل التوقعات. من الظلم لحامد كرزاي أن يُقارن ببيل كلنتن، ليس لأنه ليس جديرا بهذا الموقع إلا أنه لم يمض سوى عامين على ظهوره على المسرح العالمي وهذا وقت غير كاف لأن تتمكن أي شخصية أن تتبوأ مركزا عالميا مرموقا. ورغم شجاعة كرزاي وثقافته العالية والتزامه بالقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان وسعيه الحثيث لانتشال بلاده من مشاكلها، إلا أن إنجازاته لم تبرز إلى العيان بعد، والعظماء يقاسون بإنجازاتهم. هل سيتمكن كرزاي، مهما فعل، أن يدرأ عنه تهمة التبعية لأمريكا؟ هل سيستطيع أن يحقق إنجازا في المستقبل القريب؟ هذا أمر أشك فيه لأن أفغانستان الممزقة من كل النواحي تحتاج إلى سنين طويلة كي تتمكن من اللحاق بالعالم، وقبل ذلك لن يستطيع الرئيس كرزاي أن يدعي تحقيق أي إنجاز، وإن أدعى ذلك فلن يصدقه العالم.
في اليوم الأخير للمؤتمر نوقش الوضع الأمني وقضية المهاجرين غير القانونيين، وكان وزير الداخلية، ديفيد بلونكت متألقا في خطابه وفي أفكاره ونُكَتِه السياسية، على غير العادة بالنسبة لوزراء الداخلية الذين طالما يُنظَر إليهم بأنهم متشددون وغير صادقين في أقوالهم. إلا أن بلونكيت، وهو أعمى منذ الولادة ويرافقه باستمرار كلب مدرب يدله على الطريق، يختلف عن باقي وزراء الداخلية البريطانيين وغيرهم، فهو متحدث جيد وذو نكتة سياسية ويتمتع بشعبية واسعة بين صفوف الحزب، وله تاريخ حافل في الحركة العمالية البريطانية وكان دائما يحرز أعلى الأصوات في انتخابات اللجنة التنفيذية. عندما نهض بلونكيت لإلقاء خطابه، هبَّ بلير، وليس أحد غيره، لمساعدته وإيصاله إلى المنصة، وفعل الشيء نفسه عندما انتهى بلونكيت من خطابه. ذكرني هذا المشهد الجميل بفكرة أن الزعامة هي خدمة لا امتياز، ومن يريد أن يتصدى لها عليه أن يستعد لخدمة الناس كلهم، من صغيرهم حتى كبيرهم، ومن قويهم إلى ضعيفهم، لا أن يتوقع من الناس أن تقدم له الخدمة لكونه زعيما، ومن لا يستطيع أن يتحمل الناس أو لا يمتلك القدرة على خدمتهم فعليه أن يهتم بأمور حياته الخاصة ولا يتصدى للعمل السياسي.تذكر بلونكيت يوم فوزه لأول مرة بانتخابات اللجنة التنفيذية قبل عشرين عاما، وقال إنه خرج ذلك اليوم في المساء مع كلبه ليتمشى على ساحل البحر وسمع بعض الأشخاص القريبين منه يتساءلون في ما بينهم: “هل هو ذا حقا…لا يمكن …غير معقول….”، فأنصت بلونكيت جيدا وكان يظنهم معجبين به، إلا أنه اكتشف أنهم معجبون بالكلب!!!!!. وأضاف بلونكيت: “منذ ذلك اليوم وحتى الآن أصبحت في نظر الناس الشخص الثاني من حيث الأهمية بعد الكلب” في إشارة تواضع تستحق الإعجاب إلى أن كلبه يحظى باهتمام الناس أكثر منه.
هناك ظاهرة واضحة في حزب العمال هي إصرار الأعضاء المُعاقين والمسنين على الحضور، وبين هؤلاء عدد كبير من الشخصيات القيادية السابقة في الحزب كمايكل فوت، زعيم الحزب في الفترة 1979-1983، وجاك جونز، الزعيم النقابي السابق، وكلا الرجلين تجاوز التسعين من عمره، إلا أن حماسهما للحزب ولأفكاره لم يخفت قيد شعرة، بل قام جونز وحيا الأعضاء بقبضة يده بعد عرضِ فلمٍ قصير عن حياته تكريما له. يسمي أعضاء حزب العمال أنفسهم بالأخوة خصوصا الجيل القديم منهم ويعتزون بنشيد الحزب المعروف بـ ” نشيد العلم الأحمر” لأن مقاطعه تنتهي بعبارة ” سنُبقي العلمَ الأحمر خفاقا هنا”. والعلم الأحمر، كما هو معروف، رمز الاشتراكية التي يؤمن بها حزب العمال. وقد سمعتهم يرددون هذا النشيد في اللقاءات الجانبية بعد أن أهمل الحزب تقليد ترديد النشيد في اليوم الأخير لمؤتمره خلال السنوات الأربع المنصرمة، إلا أنه أعاد الاعتبار له هذا العام وردده الأعضاء جميعا في اليوم الأخير ولكن بطريقة مختلفة. والمستغرب أن بعض الأعضاء نسي النشيد، وبينهم نائب رئيس الحزب، جون برسكوت الذي بدا متلكئا أثناء الترديد، وقد انتقده الأعضاء على ذلك وقال بعضهم إن كان هناك من لا يُعذَر على نسيان النشيد فهو برسكوت لأنه من الجناح اليساري للحزب وكان يفترض به ألا ينسى رمزا مهما من رموز الاشتراكية في أفكار الحزب.
في أحد الأيام جاء بلير والتحق بقيادة الحزب الجالسة على المنصة، ولم يكن هناك متسع له فجلس في الخلف وبقي هناك حتى النهاية، إذ لم يتزحزح أحد من الأعضاء عن مكانه ليفسح المجال لرئيس الوزراء! تصوروا مشهد دخول رئيس وزراء عربي إلى قاعة مليئة بالمؤيدين له! بل تصوروا مشهد دخول وزير أو أي مسئول آخر أقل منه، ماذا كان سيحصل؟ ستجد دون شكأن الناس لا تستطيع حتى الجلوس على مقربة منه ومن سيجرؤ على الجلوس، من المقربين جدا ربما، فإنه سيفعل ذلك بعد أن يقدم كل صنوف الطاعة والخضوع لـ “سيادته أو معاليه أو سعادته أو سموه”!
لن تقوم لنا قائمة إلا إذا احترمنا أنفسنا وامتنعنا عن المزايدات في تقديم الخضوع للحكام والمتنفذين، إنها نقطة الضعف الكبرى عند العرب.
لم ينزعج بلير من صرخات المحتجين خارج أبواب مجمع المؤتمر الذين كانوا يصرخون بأعلى أصواتهم “يا سيد بلير اذهب فقد انتهى وقتك، لقد كذبت علينا. يا بلير أنت كذاب” وما إلى ذلك من الشتائم “المؤدبة”، بل كان يمر مبتسما ويدافع عن نفسه داخل قاعة المؤتمر. لم يأمر بتطويق المحتجين وإطلاق النار عليهم و “قتل 95% منهم وترك 5% أحياء كي يرووا القصة للآخرين” كما فعل أحد الزعماء العرب مع “أبناء شعبه”. وفي كل يوم من أيام المؤتمر الخمسة يصطف عشرات الأشخاص في الطريق إلى القاعة يوزعون منشورات تطالب بأمور كثيرة تمتد من “التحذير من استخدام الكلور في تنقية المياه”، إلى إنصاف ديفيد كلي، عالم الأسلحة الذي انتحر أخيرا، إلى الخروج من العراق. وقد حرصت على أخذ كل منشور يقدمه هؤلاء حتى أتعرف بالضبط على اهتمامات الشارع البريطاني أو مجموعات الضغط. من الطريف في هذا المجال أنني في أحد الأيام أخذت منشورا من شخص إنجليزي كان في منتهى الأناقة، وكان يقف إلى جانبه شخص آسيوي بدا لي كأنه بنغالي. وبعد أن أخذت المنشور من الإنجليزي، قال لي الآسيوي “لا تأخذ المنشور منه، إنه من الحزب القومي البريطاني (اليميني المتطرف)”. فقلت له ولِمَ لا، دعنا نعرف ماذا يريد هؤلاء، فقال “إنهم يريدون ترحيلنا جميعا من بريطانيا، فهل يرضيك ذلك؟”. نظرت إلى المنشور فوجدته يطالب بالإبقاء على الجنيه الإسترليني وعدم الالتحاق بالعملة الأوروبية الواحدة، “اليورو”. لكن الحزب القومي البريطاني معروف بتشدده نحو بقاء الأجانب في بريطانيا وهو يطالب بترحيلهم عنها. إلا أن الحزب لم يحقق نجاحا في أي من مناطق بريطانيا وليس له أي مقعد في البرلمان البريطاني، الذي يضم 650 عضوا، مما يعني أن البريطانيين، على خلاف الفرنسيين والألمان، لا يؤيدون سياسة التشدد مع الأجانب أو اللاجئين بل يطالبون بإنصافهم. وفي هذا الإطار سمعت أحد المتحدثين في المؤتمر يقول: “علينا أن ننصف المهاجرين واللاجئين فكم استفادت بريطانيا منهم في تاريخها الطويل. لقد جاء أهلي من أوروبا الشرقية إلى بريطانيا في مطلع القرن الماضي بسبب الاضطهاد الذي تعرضوا له لأنهم يهود، وقد احتضنتهم بريطانيا”. وإذا ما عرفنا أن أكثر اللاجئين هم من بلاد المسلمين فسنرى أن هذا اليهودي يطالب بإنصافهم ومساعدتهم مما يعني أن علينا أن لا نطلق التعميمات على اليهود أو أي فئة أخرى من الناس، لأن فيها الصالح والطالح.
في أمسية أخرى أقامتها صحيفة الأوبزيرفر البريطانية وأدارها الصحفي اللامع أندرو رونزلي، تحدث وزير التعليم البريطاني تشارلز كلارك عن حياته من أيام الطفولة إلى يومنا هذا. وكعادته لم يكن رونزلي رؤوفا بالوزير بل وضعه على المحك وطرح عليه الأسئلة الصعبة، الشخصية منها والسياسية. أحد الأسئلة كان”هل يتعرض أبناؤك للمضايقة في المدارس بسبب وظيفتك كوزير للتعليم؟” فأجاب الوزير: “لا تعليق.. ولكني دائما أوصيهم بأن لا يدافعوا عني وأن عليهم أن يكونوا أفرادا مستقلين بأفكارهم”. وكم كان هذا الجواب مفحما، فلو أجاب الوزير بنعم لكان ذلك انتقادا للشعب البريطاني بشكل عام، أو لبعض الأشخاص، ولو قال لا لكان مجانِبا للحقيقة، فاختار جوابا محايدا مع الإيحاء بالحقيقة من خلال ذكر تقديمه النصيحة لأبنائه بأن يكونوا مستقلين لا تابعين له. وليس لدي أدنى شك بصدق الوزير كلارك، الذي يعتبر من أكثر السياسيين البريطانيين تواضعا في كل شيء على الرغم من خلفيته وتعليمه غير المتواضعين، فهو خريج جامعة كامبرج التي لا يدخلها إلا أبناء الأغنياء والطبقات العليا. فاستقلال الأبناء عن آبائهم أمر معروف في بريطانيا وباقي البلدان الغربية. قلة من الأبناء يتبعون آباءهم، وإذا ما عرفنا أن والد توني بلير كان عضوا في حزب المحافظين المعارض لحزب العمال الذي يقوده ابنه، فإن المسألة تصبح في غاية الوضوح. أما في بلداننا المنكوبة، فإن الابن يتبع أباه في كل شيء، ابن الطبيب دائما يسعى لأن يكون طبيبا، وابن رجل الدين هو رجل دين بالضرورة، وابن السياسي هو سياسي محنك، وابن المتعصب أكثر من أبيه تعصبا، بل امتدت هذه الظاهرة أخيرا إلى الرؤساء والوزراء الذين أخذوا يرون في أبنائهم رؤساء أكفاء يستحقون أن يرثوا مناصب آبائهم. فبعد المثال الذي ضربه لنا أحد الرؤساء، هناك أكثر من رئيس عربي يُعِد ابنه كي يصبح رئيسا من بعده. يبدو أن عقارب الساعة تدور إلى الوراء في بلداننا العربية، وما أن نصل إلى نقطة الصفر فإن علينا أن نبدأ من المربع الأول ونعيد اكتشاف الأشياء من جديد. إنْ كانت هذه حالتنا يا أخوة العروبة، فهل يحق لنا أن ننتقد بلدان العالم الأخرى ونحن لا نزال نرضى بتوريث مغتصبي السلطة أبناءهم من بعدهم؟ دعونا إذن نكتفي بالتغني بأمجاد الماضي السحيق فهذا فعلا يبعدنا عن الحاضر ومزعجاته. الله! ما أعظم العراق الذي اكتشفت فيه الكتابة والقوانين وتأسست فيه أولى الحضارات، وما أعظم مصر التي حيرت العالم في تحنيط الفراعنة وبناء الأهرامات، وأجريت فيها أول عملية زرع للأسنان قبل خمسة آلاف عام، وما أعظم اليمن الذي بنى سد مأرب والذي “يعود إليه” أصل العرب جميعا!!!!