الحياة ٣١ أكتوبر/تشرين الأول ٢٠١٢
تعرفت إلى الدكتور سنان الشبيبي، محافظ البنك المركزي العراقي المُقال، في لندن في النصف الثاني من التسعينات من القرن الماضي، وكان عندها مديراً لوكالة أنكتاد التابعة للأمم المتحدة.
وكنت قد تناولت تقرير أنكتاد السنوي بالنقد في مقال لي في هذه الجريدة عام 1997 وأتذكر أن نقدي الوكالة كان يتعلق بتحذيرها من مساوئ العولمة على العالم النامي وقلت في حينه إن للعولمة محاسن أيضاً، فهي تجلب منافع عدة للعالم النامي، خصوصاً توسع التجارة وخروج الشركات العملاقة من نطاق المحلية إلى الفضاء العالمي، لتصبح متعددة الجنسية، واختيارها بلداناً عدة فقيرة، ولكن مستقرة، كإندونيسيا والهند، كي تنشئ فيها مصانع تصنع فيها منتجاتها من سيارات وكومبيوترات وغيرها، بسبب رخص الأيدي العاملة فيها ووجود الضمانات القانونية لاستثماراتها.
وقلت إن هذه النشاطات تعود بالنفع على البلدان الفقيرة لأنها توفر الوظائف للعاطلين من العمل، إضافة إلى النشاطات الأخرى النافعة التي تمارسها بعض الشركات العملاقة وفق الاتفاق مع البلدان المضيفة، كبناء الجسور والطرق والمستشفيات ودعم المدارس والجامعات والمؤسسات الوطنية.
عاتبني الشبيبي في حينه على نقدي ذاك قائلاً: «ألم تجد أحداً تنتقده غيرنا؟ نحن وكالة دولية تدافع عن الفقراء في العالم»، لكن عتبه كان ودياً، إذ دخلنا في نقاش حول تقرير وكالته، وأوضحت له رأيي في الموضوع واتفقنا على بعض النقاط واختلفنا على أخرى.
بعد ذلك اللقاء الذي كان في ديوان الكوفة في لندن، والذي جاءه الشبيبي من جنيف لإلقاء محاضرة فيه حول الاقتصاد العالمي، بقينا على اتصال، وشاءت الصدف أن نلتقي مرة أخرى في العراق عام 2003 بل ونسكن معاً في فندق واحد في بغداد لأشهر عدة عندما عملنا في الحكومة العراقية الأولى، فتعرفت إليه في شكل تفصيلي ووجدته رجلاً مهنياً وخلوقاً ومتواضعاً إلى أبعد الحدود، لكنه لا يجامل في القضايا المهنية مطلقاً وأتذكر نقاشاته في مجلس الوزراء حول صلاحيات البنك المركزي وضرورة أن يكون مستقلاً في اقتصاد السوق.
الزوبعة الأخيرة التي أثيرت على البنك المركزي العراقي وتسببه في انخفاض قيمة الدينار العراقي والتي أدت إلى إقالة الشبيبي لن تخدم الاستقرار النقدي والاقتصادي أو السياسي في العراق. للأسف هناك تطرف في ردود الأفعال لدينا، وقد دأبنا على هذا النهج وفي شكل تصاعدي منذ بداية العهد الجمهوري قبل ما يقارب الـ55 عاماً.
إن كان البنك المركزي أو أي قسم فيه قد ارتكب بعض الأخطاء، وهذا ممكن وطبيعي، فإن رد الفعل الرسمي يجب ألا يكون بإقالة المحافظ وإصدار مذكرة اعتقال بحقه، مع 19 مسؤولاً مالياً آخرين، بينما كان يحضر اجتماع صندوق النقد الدولي في طوكيو إلى جانب محافظي البنوك العالمية. سنان الشبيبي شخصية اقتصادية عالمية وهو يتمتع بصدقية وثقل علمي كبير في الأوساط الدولية، وكان وجوده على رأس البنك المركزي العراقي أحد أسباب الثقة العالمية في العملة العراقية، والمصلحة تقتضي التعامل معه بطريقة تليق بمكانته الدولية.
ما حصل له أثار استغراباً وغضباً في أوساط كثيرة في العراق وخارجه، وكل له أسبابه الخاصة. فحزب المؤتمر الوطني بقيادة أحمد الجلبي مثلاً أشار في بيان إلى ضرورة احترام الشبيبي لأنه «ابن الشيخ محمد رضا الشبيبي»، الشخصية الوطنية المعروفة الذي تولى وزارة المعارف في العهد الملكي. وعلى رغم الاحترام الكبير الذي يتمتع به الشيخ الشبيبي، إلا أن لنجله سنان ثقله العلمي وسجله المهني الخاص به وهو يستحق الاحترام والتكريم لمهنيته وإنجازاته وليس إكراماً لأبيه.
أما نائب رئيس الجمهورية السابق، عادل عبد المهدي، فقد أشار هو الآخر في مقال أخير له، إلى أهمية إنجازات الشبيبي أثناء إدارته البنك المركزي، ومنها إطفاء الديون الأجنبية التي في ذمة العراق بنسبة 90 في المئة، على رغم أن عبد المهدي، كوزير للمالية بين عامي 2004 و2005، كان يعتبر ذلك من إنجازات وزارته. لكن الرجلين كانا قد عملا معاً للتأسيس لاقتصاد منفتح يكون جزءاً من المنظومة الاقتصادية الحديثة.
ليس هناك عمل إداري أو سياسي من دون خطأ. وليس هناك شخص لا يخطئ. فهذه من صفات البشر، وهناك حاجة الى تعلم فن احترام الآخر حتى وإن كان مخطئاً أو مخالفاً. يجب أن تحفظ كرامة الشخص وسمعته إن كان الخطأ غير مقصود.
هناك الآن الكثير من الشخصيات العراقية المرموقة، لكنها في الوقت نفسه متهمة بارتكاب هذا الخطأ أو ذاك، وبعض هؤلاء دخل السجن من دون أن تكون هناك ضرورة لذلك، لأن الخطأ المرتكب من دون قصد جنائي يمكن تصحيحه. وحتى في القانون العراقي، هناك المادة 341، التي تعالج الخطأ المرتكب من دون قصد جنائي، لكن قضاتنا للأسف يحكمون وفق المادة 340 الخاصة بارتكاب الأخطاء الإدارية بقصد جنائي والتي تفرض عقوبة السجن بدلاً من الغرامة.
إن واصل القضاء العراقي تعامله مع الشخصيات الإدارية والكفاءات الوطنية بهذه الحدية والقسوة، فلن يبقى شخص خارج إطار الاتهام لأنه ليس هناك من لا يخطئ. محاولات «بهدلة» المسؤولين وإذلالهم بعد إقالتهم، خصوصاً إذا لم يكن الخطأ بقصد جنائي، لا تنتمي إلى العصر الحديث، فما أكثر المخطئين في بلدان العالم المختلفة! وفي أكثر الأحيان يستقيل المخطئ من منصبه إن كان خطأه كبيراً، خصوصاً إذا كان منصبه سياسياً.
لكن جرجرة الناس إلى المحاكم على كل خطأ صغير أو كبير لن تبني دولة عصرية، فالأكفاء والمخلصون لن يتصدوا للمسؤولية إن كان المرء سينتهي به الأمر في السجن ويخسر سمعته ومستقبله لمجرد حصول خطأ في مؤسسته. أخبرني أحد المسؤولين قبل سنتين بأن لديه في مؤسسته مواقع شاغرة، لكنه لم يعثر على من يتولاها. فقلت له لماذا لا ترقّي الموظفين الحاليين كي يشغلوا هذه الوظائف، فقال لا أحد منهم يقبل تولي المسؤولية لأن كثيرين ممن شغلوا تلك المواقع قد اتهموا بالفساد وبعضهم دخل السجن!
ما يحسب للرئيس المصري الجديد محمد مرسي أنه تعامل بأريحية وإنسانية مع سلفه، رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، المشير حسين طنطاوي، فقد كرّمه وأحاله على التقاعد وقلده وساماً، على رغم أن هناك من الأخطاء وربما الجرائم التي يمكن أن يُلام عليها طنطاوي.
وقد فعل الرئيس جمال عبدالناصر الشيء نفسه مع الملك فاروق عندما ودّعه توديعاً رسمياً يليق به، وكان في إمكانه أن يذلَّه و «يبهدله» في المحاكم على أخطاء كثيرة ارتكبتها حكومته. هذا التقليد غير موجود في العراق للأسف، وكلنا نعرف ما حصل للعائلة المالكة، ثم الزعيم عبدالكريم قاسم ورفاقه الذين قتلوا شر قتلة.
سنان الشبيبي لا يستحق كل الذي يجري له حالياً، وإن كانت هناك أخطاء أو مشاكل في مؤسسته، فإن في الإمكان أن يحال على التقاعد، خصوصاً أنه تجاوز السبعين من العمر. في الإمكان تصحيح الأخطاء من دون اللجوء إلى الحلول القاسية.