لكن الأزمة بين المركز والإقليم التي أشعلها تشكيل قوة عسكرية موحدة (قيادة عمليات دجلة) لإدارة الأمن في محافظات كركوك وديالى وصلاح الدين المتنازع عليها، كليا أو جزئيا بين المركز والإقليم، لم تحل كليا، فالمفاوضات بين الطرفين ما تزال مستمرة وقد لا تقود إلى تسوية شاملة في القريب العاجل نظرا لكثرة المشاكل العالقة بين الطرفين، وأكثرها ناجم عن تفسيرات مختلفة للدستور، لكنهما اتفقا من حيث المبدأ على أن الأمن في المنطقة يجب أن يترك لأبناء المحافظتين دون تدخل من الإقليم أو المركز. لكن هناك مشكلات أخرى بين الطرفين منها الاختلاف على توزيع وإدارة الموارد النفطية في الإقليم والنزاع على عائدية محافظة كركوك ومناطق أخرى في محافظات الموصل وديالى وصلاح الدين. ورغم أن مشكلة الموارد النفطية قابلة للحل بطريقة أو بأخرى، خصوصاً وأن المركز لا تنقصه الأموال مع تزايد إنتاجه من النفط والغاز من محافظات الجنوب، إلا أن سبب الخلاف الرئيسي هو تعاقد الإقليم مع شركات عالمية للتنقيب ثم استخراج النفط من الإقليم دون العودة إلى الحكومة المركزية التي اعتبرته تجاوزا على صلاحياتها السيادية.
لكن مشكلة المناطق المتنازع عليها ليست سهلة الحل بالنظر للكلفة السياسية التي سيتكبدها الطرفان إن قدما تنازلات لبعضهما البعض، فكركوك بالنسبة للأكراد جزء من إقليم كردستان ودولته المستقبلية وقد سمّاها الزعيم الكردي مسعود بارزاني “قدس كردستان”. لكن المحافظة على نفس القدر من الأهمية بالنسبة للقادة العرب الذين يقودون الحكومة المركزية في بغداد، سُنة كانوا أم شيعة، ولن يستطيعوا التنازل عنها للإقليم تحت أي ظرف، لأنهم سيدفعون ثمنا سياسيا باهظا. ومهما كانت الهوية السياسية أو القومية أو المذهبية لرئيس الوزراء في بغداد، فلا يمكنه التنازل عن كركوك للإقليم لأن ذلك مرفوض شعبيا، على مستوى المحافظة والبلاد ككل. لكن الحل ليس مستحيلاً. فبالإمكان إعادة توزيع مناطق المحافظة بين الإقليم والمركز بحيث تنضم المناطق ذات الأغلبية الكردية إلى الإقليم وتبقى المناطق ذات الأغلبية العربية والتركمانية والكلدوآشورية مع المركز. لكن هذا الحل، وإن كان ممكنا من الناحية النظرية، ترفضه شرائح واسعة وقوى عديدة، خصوصا في أوساط العرب والتركمان.
ومع انتهاء أزمة البنك المركزي وتهريب العملة التي أطاحت بمحافظ البنك سنان الشبيبي، ثم أزمة الفساد في صفقة الأسلحة الروسية التي أطاحت بالناطق باسم الحكومة علي الدباغ، اندلعت أزمة جديدة هي الأخطر حتى الآن في نظر أكثر المراقبين، وهي الاحتجاجات والعصيان المدني في محافظات الأنبار والموصل وصلاح الدين التي نجمت عن اعتقال أفراد في حماية وزير المالية رافع العيساوي، فقد شعر كثيرون من أبناء الطائفة السنية في تلك المحافظات أن استهداف حماية العيساوي هو جزء من دخول عملية تهميش هذا المكون مرحلة خطيرة بدأت في العام الماضي مع اتهام نائب الرئيس طارق الهاشمي بتدبير أعمال إرهاب واغتيال، ثم إدانته والحكم عليه بالإعدام، وأن هذا الاستهداف لن يتوقف حسب رأيهم ما لم ينتفض أبناء الطائفة ضد الحكومة لانتزاع ما فقدوه من حقوق بالقوة.
غير أن حكومة السيد المالكي لا ترى أي تهميش لأي مكون، وهي دائما تقول إنها مضطرة لتطبيق القانون والدستور بحق المخالفين والمتجاوزين من كل مكونات الشعب العراقي. فهي أطاحت محافظ البنك المركزي الشيعي بعدما ثبت لديها تقصيره في إدارة أموال العراق وعينت محافظا سُنّيا محله، هو عبد الباسط تركي الحديثي، وأقالت الناطق باسم الحكومة الشيعي عندما اشتبهت بتورطه في فساد، وكانت قبل ذلك قد حاربت المليشيات الشيعية في البصرة من أجل فرض القانون، وهي لا تفرق بين سني وشيعي وكردي ومسيحي أو غير ذلك وكلهم سواسية متى تعلق الأمر بتطبيق القانون، وهي في نهاية المطاف حكومة شراكة وطنية تشترك فيها المكونات القومية والدينية العراقية جميعاً، وليس هناك عداء أو هيمنة لأي مكون.
وسواء كانت الحقيقة في ما يقوله رئيس الوزراء أو خصومه وشركاؤه، فإن الكثير من الإجراءات التي تتخذها الحكومة يخلق لها أزمات، بعضها يشل حركتها وقدرتها على إدارة شئون الدولة. هناك خلل دون شك وهو يتعلق بالتعامل مع نشاطات القوى السياسية خلال الحقبة الماضية التي لم تكن قانونية بالكامل، وهناك بين السياسيين الحاليين أو حلفائهم أو مرافقيهم من أقدم في وقت مضى على ارتكاب أعمال يرقى بعضها إلى مستوى الجرائم. لكن تلك الحقبة انتهت وهناك حاجة ماسة لطي صفحة الماضي بطريقة أو بأخرى وفتح صفحة جديدة. وإن كان الزعماء الحاليون غير قادرين على فتح مثل تلك الصفحة، فإن هناك حاجة لأن يبرز زعماء جدد متحررون من أعباء الماضي وموروثاته. لكن السؤال الأهم هو هل سيتخلى الزعماء الحاليون عن مواقعهم لقادة جدد حتى وإن كانوا من أحزابهم وسائرين على نهجهم السياسي؟
قد لا يكون هذا الأمر سهلا على أكثرهم، فثقافتنا الموروثة لا تشجع “المتصدين” على ترك مواقع المسؤولية؛ لأنهم سيفقدون الكثير من النفوذ عندما يغادرون السلطة. كما إن من يأتي بعدهم قد لا يتحلى بصفات التسامح التي يأملونها فيه، وقد لا يحترم إنجازاتهم وربما يسعى إلى ملاحقتهم قضائياً وإعاقة نشاطاتهم السياسية والتضييق على حياتهم العادية. ثقافة التقاعد والتنازل والتخلي عن المواقع غير سائدة بين السياسيين في مجتمعاتنا، فلم يتقاعد القادة السابقون وقد تجاوز بعضهم السبعين والثمانين من العمر، وبعضهم ما يزال يطمح أن يتولى منصبا كبيرا على رغم كبر سنه وتدني صحته. المشكلة العراقية، إذاً، أعمق من كونها سياسية ومذهبية وعرقية ومناطقية، بل هي ثقافية بامتياز وقد يستغرق حلها عقوداً وجهوداً مضاعفة.