من يتحمل مسؤولية مقتل أطــوار بهـــجت؟
الصباح البغدادية- شباط 2006
تعرفت على أطوار بهجت أثناء عملها في قناة الجزيرة عام 2003 عندما كانت تأتي إلى مجلس الحكم لتغطية أخباره، أكثر ما كان يميز أطوار هو أخلاقها العالية وابتسامتها الدائمة في أحلك الظروف، كان منظرها دائما يبشر بأمل رغم كثرة المشاكل وتدهور الأوضاع، ورغم أننا كعراقيين اختلفنا وما نزال نختلف مع سياسة قناة الجزيرة بشكل عام التي تتصف بإزدواجية في المعايير وعدم الالتزام المهني، وعدم الاتزان في تغطيتها للأحداث العراقية، إلا أن أطوار كانت خارج هذه الدائرة وكنت أقول لها دائما أتمنى لو نهج الصحفيون الآخرون في الجزيرة نهجك يا أطوار ورأوا الحقيقة كما ترينها أنت، اختلافنا المستمر مع قناة الجزيرة لم يفرقنا مع أطوار بل كنت لسبب من الأسباب لا أقرنها بقناة الجزيرة، ولو أنني سألتها مرات عديدة مازحا عما يبقيها في هذه القناة المنحازة ضد العراق، وكانت تقول إنها ليست مسؤولة عن سياسة القناة بل عن تقاريرها هي.
وكصحفي أتفق معها كليا في هذا التصور، فالصحفي ليس مسؤولا ولا يمكن أن يكون مسؤولا عن سياسات المؤسسة التي يعمل فيها لأنه ليس مديرا لها أو واضعا لسياساتها، بل قد يختلف معها كليا في الكثير من الأمور، كذلك لا يمكنه أن يكون مسؤولا عن تقارير صحفيين آخرين يعملون معه في المؤسسة نفسها، لكنه بالتأكيد مسؤول عن نشاطاته هو فقط. وأتذكر أنني أقترحت على مجلس الحكم عندما أراد فرض عقوبات على قناة الجزيرة، إن كان لابد من فرض العقوبات فيجب أن تكون على برامج معينة وليس على القناة كلها لأن فيها صحفيين جيدين ومحايدين من أمثال أطوار بهجت وآخرين، وقد تبنى مجلس الحكم فعلا قرارا بتوجيه المسؤولين العراقيين بعدم الاشتراك في برنامجي “الاتجاه المعاكس” و”أكثر من رأي” فقط لأنهما منحازان دائما ضد العراق.
أتذكر أن أطوار نصحتني ذات مرة عندما طُلب إلي المشاركة ببرنامج حواري في الجزيرة (الاتجاه المعاكس) قبل أكثر من عامين، في يناير/كانون الثاني عام 2004، بعدم المشاركة، وقالت لي إنك ستتضرر ونحن سنتضرر إذا ما شاركت في هذا البرنامج الذي قالت إنه يسبب لنا وللقناة مشاكل مستمرة بسبب انحياز مقدمه وشخصيته القلقة. إلا أنني تعرضت لضغوط بهدف المشاركة وصدقت بوعود مدير البرنامج ومقدمه بأنهما لن يسمحا بأي إساءة للعراق ورموزه الدينية والوطنية، وقد حصل المحذور وشاركت في البرنامج وكان ذلك من الأخطاء التي لن أغفرها لنفسي.
إلا أن سياسة قناة الجزيرة لم تعد تطاق على ما يبدو بالنسبة لأطوار، لذلك فإنها قررت مع عدد من زملائها العراقيين الاستقالة من القناة بعد أن سمحت لأحد المشاركين في برامجها بالتطاول على مقام السيد علي السيستاني يوم الثالث عشر من كانون الأول الماضي، قبل الانتخابات بيومين، والذي دفع مئات الآلاف من العراقيين إلى التظاهر في كل مدن العراق احتجاجا على عمل القناة هذا. وقد كسبت أطوار باستقالتها احتراما جديدا يضاف إلى الاحترام الذي تمتعت به كصحفية ملتزمة بمعايير الأمانة الإعلامية.
يوم التاسع والعشرين من كانون الثاني 2006 تسلمت رسالة هاتفية من أطوار تبلغني فيها أنها انتقلت إلى قناة العربية وتخبرني برقم هاتفها الجديد. وكم سررت لهذا الخبر، فقناة العربية برهنت خلال العامين المنصرمين أنها أقرب إلى الحياد المهني منها إلى الانحياز، وأنها تعاملت مع الوضع العراقي بمهنية معقولة واستبعدت أو همشت الصحفيين الذين عرفوا بانحيازهم السياسي لجهة معينة في العراق، خصوصا بعد تولي الأستاذ عبد الرحمن الراشد إدارة القناة.
أتصلت بأطوار على هاتفها الجديد لأهنئها على هذا الانتقال النوعي وأتمنى لها التوفيق وأعدها بمواصلة التعاون معها وقد تحدثنا لعشرة دقائق أو أكثر ثم ودعنا بعضنا على أمل اللقاء قريبا.
كنت أشاهد تقرير أطوار الأخير المباشر من على قناة العربية مع أصدقاء آخرين وقد أعجبت بشجاعتها أيما إعجاب وتحدثت مع الأصدقاء عن مقدرة هذه الصحفية الفائقة والتزامها الإعلامي المثير للإعجاب رغم حداثة عهد الإعلام الحر المحايد في العراق. ولا أخفي أنني في تلك اللحظة التي شاهدت فيها تقريرها الأخير خشيت على سلامتها فقد بدت المنطقة التي خلفها قفراء وكان الوقت ليلا، يضاف إلى ذلك أنها قدمت معلومات دقيقة عن مكان وجودها “على البوابة الشمالية لمدينة سامراء”. لا شك لدي أن حبها لمدينتها سامراء وشعورَها بالإطمئنان هناك هو الذي دفعها إلى الإسراع بالذهاب إلى هناك لتكون سباقة في تغطية أخبار سامراء. افتخر بأنني قيَّمتُ عمل اطوار وقدراتها الصحفية المتميزة في حياتها وعرفتُ قيمتها الشخصية والإعلامية منذ وقت مبكر.
لقد صدمني مقتلها، وبالطريقة البشعة التي رأيناها، أثناء تأديتها لعملها المقدس، ولا أدري ما الذي حققه قاتلوها بهذا العمل الشنيع غير إضافة جريمة جديدة لمسلسل الجرائم التي ترتكب بحق الأبرياء في العراق؟ مقتلها يثير أسئلة أخرى حول مسؤولية الحكومة عن سلامة الصحفيين العاملين في العراق وتقديمها المعلومات الأمنية الدقيقة لهم بشكل متواصل حتى يتمكنوا من مزاولة عملهم دون خوف أو تردد. اتصل بي أحد الصحفيين ذات مرة وقال لي ردا على انتقادي له على موقفه المتخاذل من الإرهاب: من سيحميني من الإرهابيين إن أنا قلت الحقيقة عنهم وهاجمتهم كما يتمنى كثيرون غيري في العراق؟ هل قدمت لنا الحكومة أي حماية أو تسهيل؟ بل هل منحتنا تراخيص أسلحة كي نحمي أنفسنا؟ أسئلة مشروعة تنتظر حلا عاجلا من الحكومة. وفي هذا الصدد يجب التذكير بأن صحفيي الدول الأخرى يتمتعون بحماية كاملة من حكوماتهم التي تقدم لهم تقارير مفصلة باستمرار عن الأوضاع الأمنية في كل أنحاء العالم، كما تقوم بمنع الصحفيين أحيانا من الذهاب إلى بعض المناطق خوفا على سلامتهم. نحن بانتظار أن تقوم حكومتنا بذلك وأن تكون هناك جهة حكومية معينة تتولى هذا الأمر المهم. وفي غياب المسؤولية الحكومية، تقع المسؤولية كاملة على وسائل الإعلام العاملة في الساحة العراقية.
إنني أتساءل: كيف تسمح قناة العربية لفريق مكون من ثلاثة أشخاص غير مسلحين بينهم صحفية معروفة، أن يذهب في الليل، ودون أي حماية، إلى منطقة معروفة بخطورتها بسيارة بث تلفزيوني واضحة المعالم لكل ذي عين، وفي وقت يجمع الناس على أنه متفجر وخطير؟ سؤال يحتاج إلى جواب مقنع من قناة العربية، وأنا هنا لا أشكك في النوايا التي أعلم بأنها إنسانية ومهنية، لكنني أرى أنه قرار موغل في اللاأبالية، كما أوضحت نتائجه المأساوية. قد يتحمس الصحفي أحيانا لتغطية خبر معين لكن يتعين على مسؤوليه أن يتأكدوا من ظروف سلامته قبل إرساله، وإن كان هناك احتمال قليل بتعرضه للخطر، فإن عليهم منعه، فسلامة الصحفي ومرافقيه تأـي أولا. وسؤال آخر يطرح نفسه: هل حصل الصحفيون العاملون في وسائل الإعلام العاملة في العراق على تدريب يؤهلهم للعمل في بيئة خطرة؟ إن لم يحصلوا، فعلى وسائل الإعلام هذه أن توفر لهم مثل هذا التدريب الضروري جدا في البيئة العراقية.
لقد فقدت العائلة الإعلامية العراقية حتى الآن عشرات الصحفيين القديرين أو العاملين في المجال الإعلامي، من مصورين ومهندسين وسائقين وغيرهم، الذين قتلوا، إما عن طريق الخطأ أو نتيجة لاستهداف الجماعات الإرهابية لهم، أو أنهم أو مسؤوليهم لم يدركوا حجم الأخطار المحدقة بهم بسبب نقص المعلومات والتدريب، فإلى متى يبقى الجسد الإعلامي العراقي ينزف دون أن يسعى أحد لوقف نزيفه؟
رحلت أطوار بعد حياة قصيرة جدا ولكن مليئة بالإنجازات والعمل الدؤوب وحب الناس، وحُرمنا برحيلها من صحفية قديرة وشاعرة واعدة وإمرأة عاملة متساوية مع الرجل، وإنسان في غاية الرقي المهني والأخلاقي. رحلت أطوار وكان رحيلها صعبا على كل من عرفها ولم يفاجئني الاحساس بالخسارة الكبيرة بين زملائها، ولولا الظروف الأمنية الاستثنائية التي تمر بها البلاد لرأينا تشييعا من نوع آخر لأطوار يجتمع فيه الإعلاميون والسياسيون، المتفقون والمختلفون، المتنافسون والمتحالفون، فالجميع أجمعوا على حبها واحترامها وتقييم أدائها.
حميد الكفائي