لم تكن هناك مناسبة للتفجير الأخير الذي استهدف شيعة في باكستان، ولا الذي قبله أو الذي قبله، هذا إذا افترضنا أن لا بد من مناسبة للتفجيرات العشوائية، كأن يكون هناك عيد أو مناسبة دينية أو مذهبية، لكن المناسبة الوحيدة التي «حفزت» المنظمين والمنفذين هي أن السكان المستهدفين من الشيعة! والأغرب أن منظمة «إسلامية» اسمها «لشكار جهانغوي» ادعت (بفخر) أنها هي المسؤولة عن تفجيرين، ويُعتَقد أنها هي أيضاً مسؤولة عن التفجير الأخير لأنه ينسجم مع أهدافها التي ترمي إلى «تنظيف» باكستان من سكانها الشيعة الذين يشكلون وفق أقل التقديرات 10 في المئة من إجمالي السكان، بينما يقول الشيعة الباكستانيون إنهم يشكلون 30 في المئة. وسواء كان الشيعة عشرة أو ثلاثين في المئة، فإن عددهم بالملايين في بلد تجاوز تعداد نفوسه 150 مليوناً حتى الآن. أما عدد المتعاطفين معهم، نتيجة للاستهداف الذي لا يمكن أن يسمى إلا إجرامياً، في باكستان وغيرها، فهو بالتأكيد يفوق عددهم أضعافاً.
لماذا يا ترى يلجأ الباكستانيون، المتحدرون أصلاً من ثقافة التسامح والتعايش الهندية، إلى هذه الأساليب الهمجية ضد بعضهم بعضاً لمجرد الاختلافات المذهبية غير المتأصلة في ثقافتهم والتي أتتهم من وراء الحدود؟ لا بد من أن هناك تبريراً دينياً لهذه الهمجية عملاً بمقولة عالم الفيزياء الأميركي، ستيفن وينبيرغ، الحائز جائزة نوبل في الفيزياء، وهي «أن الرجال الأخيار يؤدون أفعالاً خيّرة والرجال الأشرار يؤدون أفعالاً شريرة، لكن عندما يرتكب الرجال الأخيار أفعالاً شريرة، لا بد من أن يكون هناك دافع ديني وراءها». نعم هناك «فقهاء» يجيزون القتل، وهؤلاء لم يشوِّهوا الدين فحسب، بل أساؤوا إلى سمعة العرب والمسلمين بين باقي الأمم عندما جعلوا الثقافات الأخرى تقرن الإسلام بالعنف والتعصب والقتل. والأسوأ هو الاستعداد عند البعض لارتكاب أبشع الجرائم باسم الدين، فهؤلاء يبحثون عن أي تبرير لارتكاب الجريمة، إلا أن المهم في ذلك هو أنهم لا يفعلونها من دون تبرير، وليس هناك أفضل من التبرير الديني الذي «يرضي الله ويبرئ الذمة ويريح الضمير».
الحرب المذهبية في باكستان ليست باكستانية بالكامل على رغم أن أدواتها باكستانية، ومن الخطأ أن نتصور أنها ستبقى ضمن حدود باكستان خصوصاً وأنها ترتكب باسم السنّة والشيعة، التيارين الرئيسيين في الإسلام. حتى الآن لم ينتبه إلى هذه المجزرة أحد من المسؤولين وصناع القرار، لا في باكستان ولا في أي مكان آخر. وإن بررنا سكوت الباكستانيين عن هذه المجازر، بسبب قرب موعد الانتخابات وخشية السياسيين من فقدان أصوات المتطرفين، فما هو مبرر سكوت دول العالم الأخرى، خصوصاً الدول العربية التي ستكتوي بنيران هذه الحرب التي ليس فيها رابح. في كل دول العالم تقريباً، هناك سنّة وشيعة، إلى جانب أديان وعقائد أخرى، وبغض النظر عن طبيعة العقائد التي تدين بها كل طائفة ومدى صحتها أو غرابتها، فإن من حق أي إنسان، مهما كانت عقيدته أن يعيش بأمن وأن يؤمن بما يشاء، فهذا حق ضمنته القوانين الدولية والشرائع السماوية. ينسى البعض أن القرآن يصرح بحق الإنسان في الاعتقاد: من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. إن كان الله يعطي هذا الخيار للناس جميعاً، فبأي حق يسلبه منهم فقيه ويحرّض أتباعه على قتل الآخرين؟
آن الأوان أن تُفعَّل القوانين التي تجرم الخطاب الذي يحرّض على الكراهية والقتل في الدول الإسلامية وأن يحاسَب مطلقوه مهما كان الغطاء الذي يحتمون به.
في بنغلادش، دانت المحكمة الخاصة أخيراً الزعيم الإسلامي دلوار حسين سعيدي، زعيم حزب الجماعة الإسلامية، بجرائم إبادة واغتصاب، بين جرائم أخرى، كان قد ارتكبها، باسم الإسلام طبعاً، أثناء حرب الاستقلال من باكستان التي تُوجت عام 1971 باستقلال بنغلادش (أو باكستان الشرقية كما كانت تعرف آنذاك). ومن بين الجرائم التي دين بها سعيدي الاستيلاء على ممتلكات الهندوس! كما دانت المحكمة قادة «إسلاميين» آخرين ممن ارتكبوا جرائم باسم إبقاء دولة باكستان الإسلامية موحدة.
يجب أن تتحلى الحكومات والمحاكم في الدول الإسلامية الأخرى بالشجاعة نفسها وتقاضي كل من يرتكب جريمة بإسم الإسلام الذي هو ملك للجميع وليس لفئة معينة. البعض يعتقد أن الكلام ليس جريمة، لكن الكلام الذي يؤدي إلى قتل الناس أكبر جريمة. في الجزائر، قتلت الجماعات المتطرفة في التسعينات 120 ألف إنسان بريء بناء على فتوى من فقيه يقيم مرفّهاً في إحدى الدول الغربية! فهل يا ترى يمكن أن يُعتبر هذا «الفقيه» بريئاً من هذه الجرائم؟
المفكر العربي الأميركي الراحل إدوارد سعيد، قال ذات مرة إنه يحمل الثقافة الإسلامية حتى وإن كانت عائلته تعتنق الديانة المسيحية، «ولا يحق لأحد أن يسلب مني هذه الهوية». نعم، يجب ألا ندع المتطرفين يختطفون الأديان والثقافة والقيم الإنسانية العليا، فهم ليسوا أهلاً لحملها لأنها أتت لتنظيم المجتمعات وزرع قيم المحبة والعدل والمساواة بين الناس وهذا ما لا يقرونه أو يحترمونه. أحسب أن الهجمة على شيعة باكستان ستجلب لهم مزيداً من التعاطف بين المسلمين وباقي بني البشر في المستقبل، لكن السكوت عليها بين من يستطيعون إيقافها هو جريمة أكبر من التفجيرات العشوائية التي تقتل الأبرياء من النساء والأطفال لأنها تعطي انطباعاً بأن هناك شيئاً من التبرير لها باعتبار أن الضحايا يؤمنون بعقيدة مختلفة وهذا ليس من حقهم.
قادة الإسلام ومؤسسوه الأوائل لم ينكروا على الآخرين حقهم في الاعتقاد، فقد رفض عمر بن الخطاب أن يصلّي في كنيسة عندما فتح المسلمون بلاد الشام خشية أن يستولي عليها المسلمون لاحقاً ويعتبروها ملكاً لهم بينما أراد هو أن يحترم خصوصيات الأديان الأخرى ويبقي المجتمع متنوعاً، بينما صلّى علي بن أبي طالب في كنيسة في العراق بعد استتباب الحكم الإسلامي هناك معتبراً إياها مكاناً للعبادة لا يختلف عن المسجد، وعندما علّق أحد أتباعه قائلاً «كم أُشرِك بالله ها هنا» رد عليه الإمام «لِمَ لا تقول كم عُبِد الله ها هنا»؟ إمامان من أعظم أئمة المسلمين فعلا أمرين يبدوان مختلفين ظاهرياً لكنهما في الحقيقة منسجمين تماماً مع مبادئ حرية الاعتقاد. عندما تتغير الظروف يتغير السلوك وتتغير معه القوانين والأعراف. فلماذا يا ترى لا يقر البعض من مسلمي اليوم حق الاختلاف الذي أجازه المؤسسون؟