المعارضة حالة ضرورية في الدولة الديمقراطية والهدف الأساسي منها هو ببساطة التنافس السلمي بين الجماعات والأحزاب السياسية خارج السلطة مع من فيها بهدف إقناع غالبية الناس بأنها الأفضل لإدارة الحكم من شاغلي المنصب. وحتى في الدول غير الديمقراطية، فإن المعارضة البناءة تقدم خدمة للمجتمع والحكومة القائمة عبر تشخيص الأخطاء والمساهمة في إيجاد الحلول. ومن فوائد رقابة المعارضة ووسائل الإعلام الحرة للحكومة أنها تجعلها تتقن عملها.
لكن هناك حدوداً للمعارضة تتوقف عندها. فالخلاف يتوقف ويتحول إلى تعاون عندما تتعرض القضايا الوطنية التي تهم الجميع إلى الخطر. ففي حالة تعرض البلد إلى خطر أجنبي مثلاً أو كارثة طبيعية أو أزمة وطنية فإن المعارضة عادة ما تصطف مع الحكومة من أجل إبراز موقف موحد يسند الدولة ويخدم المصلحة العامة ويعزز الهوية الوطنية، وفي نهاية المطاف فإن المعارضة والحكومة تسعيان إلى تحقيق المصلحة العامة لكنهما يتنافسان في الظروف الطبيعية على تقديم الأفضل للمجتمع.
ويقول الخبراء إن مساحة الاختلاف بين الحكومة والمعارضة يجب ألا تتعدى ٢٠٪، لتبقى ٨٠٪ من القضايا متفق عليها بين الأطراف السياسية المتنافسة، وعلى المعارضة ألا تسعى لأن تختلف مع الحكومة في كل شيء بل عليها أن تركز على الأمور التي يمكن إصلاحها حسب أولويات مدروسة، وعلى الحكومة أن تستفيد من الأفكار التي تطرحها المعارضة وتعمل بها من أجل توسيع مساحة التأييد لها في المجتمع.
إذا زادت مساحة الخلاف بين المعارضة والحكومة عن ٢٠٪، وهذه ليست نسبة سحرية بل قابلة للتمدد قليلاً في كلا الاتجاهين، فإن الهوة بينهما ستكون كبيرة بحيث يتسبب نشاط المعارضة في احداث أضرار على مستوى البلاد. وكلما اتسعت شقة الخلاف بين الحكومة والمعارضة فإن المنافع المتأتية سواء من الحكومة أو المعارضة تتقلص لأن عمل كل منهما يكمل الآخر، وإن كان دائماً في تعارض فإن عمل المعارضة يلغي عمل الحكومة أو يقلص من فائدته ما يتسبب في الإضرار بمصلحة البلاد التي يفترض أنها الهدف الأسمى لكل منهما.
في بريطانيا مثلا، اتسعت هوة الخلاف بين المعارضة المحافظة وحكومة العمال أواخر السبعينيات ما أدى في النهاية إلى سقوط حكومة العمال، خصوصاً مع انضمام نقابات العمال المتحالفة في العادة مع حزب العمال إلى المعارضة وقيامها بسلسلة من الإضرابات التي أضعفت الحكومة، وكانت النتيجة مجيء حكومة المحافظين اليمينية بقيادة مارغريت ثاتشر.
معارضة النقابات استمرت في عهد ثاتشر بل اتسعت لكن ثاتشر أدركت أن قوة نقابات العمال ليست في مصلحة البلد بل وتتعارض مع مبادئ الديمقراطية والحرية ورأت أن هناك ضرورة لإصلاح قانون النقابات. وقد قادها ذلك لأن تدخل في معركة طويلة معها حتى تمكنت من تغيير القانون الذي كان يطلق أيدي قادة النقابات على حساب الأعضاء العاديين. وقد سمح القانون الجديد بمزيد من الحرية والحقوق للأعضاء العاديين الذين أصبح بإمكانهم التصويت على الإضراب بينما كان قادة النقابات هم الذين يقررون متى يضرب العمال أو يعودون إلى العمل.
وفي عام ١٩٨٤، استمر اضراب عمال مناجم الفحم في بريطانيا عاماً كاملاً وألحق أضرارا كبيرة بالاقتصاد البريطاني لكنه انهار لاحقاً بعد أن صمدت الحكومة بوجه النقابات وتمكنت من تغيير القانون. أما حزب العمال فعلى رغم أنه يعلم أن قوة قادة النقابات ليست مفيدة للبلد لأنها تأتي على حساب مصالح الأعضاء العاديين، لكنه وقف مع النقابات بسبب تأثيرها على جماهيره، ولا ننسى أن النقابات هي التي شكلت الحزب مطلع القرن العشرين كي يكون صوتها في الحكومة.
وبعد ان اتسعت الهوة بين الحكومة والمعارضة ازدادت شعبية الحكومة وعزلة المعارضة بسبب تطرف سياسات الأخيرة ونشاطاتها وأصبح المحافظون يحتلون ثلثي مقاعد مجلس العموم بينما انحسرت المعارضة في زاوية حرجة وانقسمت على نفسها بسبب تطرفها وتحليقها في عوالم بعيدة عن الواقع. فقد اتسعت شقة الخلاف بين الجانبين لتشمل الاقتصاد والدفاع والتعليم والصحة والعمل وباقي مناحي الحياة لتتجاوز ربما نسبة ٥٠٪.
لكن حزب العمال المعارض أدرك أن سياساته أصبحت لا تمثل غالبية المواطنين وهي لم تتطور منذ الستينيات والخمسينيات بينما تغيرت الأوضاع في بريطانيا وتغير الاقتصاد كليا في ظل حكومة ثاتشر وتحول من اقتصاد يعتمد على الصناعة إلى اقتصاد يعتمد على الخدمات والسياحة. فبدأ الحزب بتغيير سياساته ونظامه الداخلي في ظل زعامة نيل كينونك ثم أكمل توني بلير المشوار وتمكن من الانتقال من اليسار إلى الوسط ليفوز إثرها بأصوات غالبية الناخبين وتمكن من الفوز في الانتخابات ثلاث مرات.
الشعوب بطبيعتها تميل إلى الوسطية والاعتدال وتريد حكومات ومعارضات معقولة تحقق لها الاستقرار والرخاء وليس الانتصارات والملاحم العسكرية أو الخطابية.
للأسف مازال التطرف سائداً في بلداننا عند الحكومات والمعارضات في الوقت نفسه لذلك فنحن بحاجة إلى الاعتدال عند الاثنتين.
تطرف الحكومة يقود إلى تطرف المعارضة، لكن العكس أيضاً صحيح فإذا ما ارتكبت المعارضة بعض الحماقات مثل عدم التفريق بين الدولة والحكومة عندها ستضطر الحكومة للتعامل معها بقوة ما يستدعي أن ترد المعارضة بقوة أيضاً. والقوة هنا لا تعني دوماً القوة المسلحة بل التظاهرات والاحتجاجات والاضرابات التي عادة ما تكون سلمية.
مؤسسات الدولة تعود للمجتمع ككل لكنها بإدارة الحكومة، لذلك فإن مسؤولية كل فرد في المجتمع هي أن يحترم مؤسسات الدولة ويعمل على صيانتها مهما كان رأيه في سياسات الحكومة أو المعارضة. وتقع على المعارضة مسؤولية تقترب من مسؤولية الحكومة في الحفاظ على مؤسسات الدولة والنظر بعيداً إلى مصلحة المجتمع ككل.
للأسف بعض تشكيلات المعارضات العربية لا تفرق بين الدولة والحكومة ولم تعتد على الاحتجاج السلمي ولا تعرف كيف تستفيد من الاحتجاج وهي عادة ما تميل إلى الحلول الجذرية وتحاول تهشيم الدولة لأن ذلك في نظرها يضعف الحكومة متناسية أنه يضعف الدولة والمجتمع في الوقت نفسه ويضعف موقف المعارضة ويقلص من شعبيتها وفرصها في قيادة الدولة.