الوضع الأمني في العراق تدهور في شكل خطير الشهر الماضي على رغم الاستثمارات الكثيرة والكبيرة التي وضعتها الدولة في قطاع الأمن خلال السنوات العشر الماضية. عدد الذين يعملون في مجال الأمن، بين شرطة وجيش وحماية منشآت وحمايات شخصية، قد تجاوز المليون منتسب وفق الإحصاءات الرسمية، لكن الأمن ما زال هشاً والسيارات المفخخة تجد طريقاً شبه سالك نحو الأسواق والتجمعات السكانية في العاصمة بغداد ومدن رئيسة أخرى مثل كركوك والموصل وبابل والبصرة. ففي يوم واحد هو يوم ١٩ آذار (مارس) انفجرت ١٥ سيارة مفخخة في بغداد وحدها.
يتساءل كثيرون: ما السبب في هشاشة الأمن؟ ولماذا تعجز الأجهزة الإلكترونية (السونار) التي يحملها رجال الشرطة ومنتسبو الجيش المنتشرون في كل مكان، والتي دفعت الحكومة ملايين الدولارات من أموال الشعب العراقي لشرائها، عن كشف المتفجرات التي تحملها السيارات المفخخة؟ ولماذا يعجز الضباط والمراتب الذين حصلوا على تدريب جيد على أيدي القوات الأميركية ومؤسسات أمنية عالمية أخرى عن رصد مخططات الإرهابيين واكتشافها قبل تنفيذها؟ وأين هي عناصر المخابرات والاستخبارات مما يجري؟ هل ما زالت فتية غير قادرة على جمع المعلومات المفيدة حول تحركات الإرهابيين لإنقاذ أرواح الأبرياء؟ ألا يدعو كل هذا الإخفاق الحكومة لإعادة النظر في خططها وحساباتها الأمنية؟
الحكومة تلقي باللائمة على الوضع السياسي المتأزم وتقول إنه يقف وراء تدهور الأمن. لا شك في أن هذا صحيح، ولكن القضية يجب أن ينظر إليها من ناحية أمنية بحتة، فكثير من البلدان لديها أزمات سياسية لكن الأمن فيها لم يتدهور. لقد برهنت الحكومة على جرأة كبيرة حتى الآن في اتهام واعتقال ومحاكمة كل من تظن أنه متورط في الإخلال بالأمن، من نائب الرئيس طارق الهاشمي وأفراد حمايته إلى وزير المالية رافع العيساوي وبعض أفراد طاقمه، وقبلهم وزير الثقافة أسعد الهاشمي ونواب في البرلمان هربوا إلى الخارج بعدما اتهموا بالضلوع في أعمال عنف وتخريب.
لكن كل هذه الجهود لم تحقق الأمن المنشود، والشعب العراقي بكل تلاوينه السياسية والدينية والقومية يبحث عن أجوبة لهذه الأسئلة المتكررة منذ عشر سنوات. لم تعد الناس تتحمل مناظر الأشلاء المتناثرة في الأسواق والشوارع والمساجد. لم تعد تقبل بالتفسيرات المقدمة لها، لأنها وإن كانت صحيحة، فإنها لا تقدم حلولاً ناجعة لمشكلة الأمن. لن تثق الناس بما يقوله المسؤولون الأمنيون الذين فشلوا في حفظ الأمن أو على الأقل إلقاء القبض على المتورطين في تدهوره.
نعم، ليس في الإمكان مراقبة كل سيارة ودراجة وشارع وزقاق وسوق ومسجد، كما لا يمكن في دولة غير بوليسية أن تسيطر الأجهزة الأمنية على كل حركة، صغيرة أو كبيرة، ولكن الإجراءات المتخذة حتى الآن فاشلة ولم تحفظ أرواح الناس أو تمنحها الثقة بقدرة الضالعين بشؤونها الأمنية على حفظ الأمن. كما أن ثقة العراقيين بالمستقبل لم تعد بالدرجة التي كانت عليه سابقاً، والثقة بالمستقبل هي أهم عنصر من عناصر الاستقرار والتقدم والرخاء الاقتصادي.
لقد أثيرت شكوك كثيرة حول قدرة الأجهزة الالكترونية التي يستخدمها رجال الشرطة في فحص السيارات في الشوارع ومدى قدرتها على اكتشاف المتفجرات، وهذه الشكوك لم تنطلق من خصوم الحكومة فحسب، بل حتى من الشركة المصنعة لهذه الأجهزة والتي قال مسؤول فيها لوسائل الإعلام إنها غير دقيقة. فلماذا يا ترى تصر الحكومة على استخدامها والاعتماد عليها في اكتشاف المتفجرات على رغم عجزها الواضح؟
كثرة السيطرات ونقاط التفتيش في الشوارع لن تجدي نفعاً خصوصاً إذا كانت ثابتة لأن في إمكان الجماعات الإرهابية التي أصبحت متمرسة على ما يبدو، أن تخطط لتجاوزها واختراقها، كما أنها تزيد من الزحام الذي يزيد الوضع سوءاً في كل الاتجاهات ويفاقم التلوث البيئي في المدن الذي زاد من أمراض الربو وغيرها، خصوصاً عند الأطفال، وهو أيضاً يؤخر أعمال الناس ويفاقم الأضرار الناتجة من حدوث أي انفجار أو خلل أمني. الأفضل هو أن تتقلص نقاط التفتيش الفعلية في الشوارع وتزداد نقاط التفتيش الخفية التي تراقب الشوارع والمارة عبر الكاميرات لرصد التحركات المشبوهة للأشخاص والعجلات.
لماذا تشغُر حقيبة الداخلية منذ سنتين ونصف السنة على رغم أنها من حصة التحالف الوطني الذي يقوده رئيس الوزراء نوري المالكي؟ إن كان في الإمكان إدارة شؤون الأمن بكفاءة وجدارة من دون وجود وزير للداخلية، فما هي حاجتنا الى باقي الوزراء؟ أليس في الإمكان الاستغناء عنهم أيضاً وفق هذه النظرية وتوفير المبالغ الكبيرة التي تنفق عليهم؟
لقد برهن رئيس الوزراء حتى الآن على جرأة كبيرة، وأحياناً فائضة عن الحاجة، في اتخاذ القرارات على رغم معارضة شركائه وحلفائه لبعضها، فلماذا يتلكأ منذ عامين ونصف العام في تعيين وزير للداخلية؟ الشعب يريد مسؤولاً يسائله عن الأمن وأسباب تدهوره واحتمالات ضبطه مستقبلاً. وليس هناك غير رئيس الوزراء يستطيع أن يسمي هذا المسؤول كي يتوجه إليه العراقيون بأسئلتهم ويحمّلونه المسؤولية عند حصول أي إخفاق أمني.
كل خلل أمني يحصل في العراق، خصوصاً إن كان في العاصمة بغداد، يزعزع ثقة العراقيين بحكومتهم ونظامهم السياسي ومستقبل بلدهم، ويؤخر عودة الكفاءات ويبعد الاستثمارات والشركات الأجنبية عن المشاركة في الإعمار، فلماذا يا ترى لم يُولَ الأمنُ في العراق الأهمية القصوى التي توليها باقي حكومات العالم له؟
الجماعات الإرهابية التي تهدد العراق منذ عشر سنوات تهدد هي نفسها كل دول المنطقة، بل ودول العالم الأخرى، لكن نجاحها هناك كان محدوداً، فلماذا يا ترى تنجح الدول الأخرى في كشف خطط الإرهابيين قبل تنفيذها وإلقاء القبض عليهم بينما يقع العراقيون في أكثر الأحيان ضحايا لهذه الخطط التي باتت معروفة لكثرة تكرارها؟ إنها أسئلة باتت تقلق العراقيين جميعاً، بل وباقي دول العالم التي تريد أن تنشط اقتصادياً في العراق، لكن ما يمنعها هو اختلال الأمن.
ليس هناك من ينكر أن مهمة حفظ الأمن ليست سهلة بل تتطلب جهوداً كبيرة وخبرات واسعة وكفاءات عالية وأموالاً طائلة وتصميماً عالياً من المسؤولين عن الأمن، مهنيين وسياسيين، لكن تحقيق الأمن ليس مستحيلاً في العراق الذي لا ينقصه كل ما تقدم. يجب أن تتضافر الجهود من أجل إنجاز هذه المهمة في أسرع وقت كي يعيش العراقيون بأمن وسلام كباقي شعوب الأرض ويبدأوا بإعمار بلدهم والنظر إلى المستقبل بدلاً من الماضي.
http://alhayat.com/OpinionsDetails/501205