-
الأحد, 20 ديسيمبر 2009لا أستبعد أن يكون رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي مقتنعاً فعلاً بأن «الاعترافات» التي أدلى بها معتقلون على شاشة التلفزيون العراقي بأنهم قاموا فعلاً بتنفيذ عمليات إرهابية طالت وزارات ومواقع عراقية مهمة أخيراً، وأنهم «بعثيون تلقوا أوامر من قياداتهم في سورية» للقيام بهذه التفجيرات! ودليل تصديقه إياها أنه احتج بها في ردوده على النواب أثناء استجوابه في البرلمان يوم العاشر من كانون الأول (ديسمبر)، الذي تزامن مع اليوم العالمي لحقوق الإنسان! هذه الاعترافات، صحت او لم تصح، هي اعترافات مخالفة للقانون، وهذا هو رأي القانونيين وأولهم وزير العدل في حكومة المالكي، هاشم الشبلي، الذي استقال من الحكومة بعد فترة وجيزة من تسلمه منصبه عام 2006. لقد أجاب الشبلي على سؤال طرحته عليه شخصياً عندما كان وزيراً للعدل بأنه لا يجوز قانوناً أن تُعرض أي اعترافات يدلي بها معتقلون في وسائل الإعلام قبل إجراء محاكمة أصولية عادلة. من المحزن حقاً أن نرى مثل هذه الممارسات تحدث في دولة يراد لها أن تكون «دولة قانون» وفي ظل حكومة تقودها قائمة انتخابية تحمل هذا الاسم.
لا شك في أن الإعمال الإرهابية الأخيرة التي استهدفت المدنيين مرعبة ومفزعة لمعظم الناس، لكنها إن أرعبت الناس العاديين فإنها يجب أن لا تصيب المسؤولين الكبار بالهلع وتدفعهم لأن يقْدموا على انتزاع اعترافات تحت القسر والتعذيب الجسدي والنفسي من متهمين قد يكونون أبرياء حقاً، فالمحاكمة الأصولية وحدها تقرر إن كانوا قد ارتكبوا جرماً أم لا. إن التحدث عبر وسائل الإعلام عن أشخاص متهمين وذكر معلومات عنهم يبطل المحاكمة ويضعف الأدلة المقدمة ضدهم في ظل الأنظمة القضائية الرصينة، وقد أُطلق سراح متهمين في بريطانيا بسبب تسرب معلومات عنهم إلى الناس الذي اعتبر ذا تأثير مباشر على تفكير أعضاء هيئة المُحَلّفين التي تقرر، بحسب القانون البريطاني، إن كان المتهم مذنباً أم لا.
الدولة تسقط عندما تبدأ بممارسة العنف ضد مواطنيها حتى وإن كانوا قد ارتكبوا مخالفة أو جرماً. وتسقط في عيون مواطنيها عندما تبدأ بمخالفة قوانينها وشعاراتها المرفوعة. والسياسيون يسقطون إذا اعتقدوا أنهم فوق القانون وأن كل ما يفعلونه، حتى وإن كان مخالفاً للقانون، هو من أجل المصلحة العامة. لا يطاع الله من حيث يُعصى ولا تُخدم الدولة عبر مخالفة قوانينها. لا أحد ينكر أن بعض الخلايا الموالية للنظام السابق تنشط عسكرياً في مناهضتها النظام الحالي، وهذا ليس سراً فهم أنفسهم يصرحون به ويعتبرونه مقاومة، لكن المعروف أيضاً أنه ليس بين أتباع النظام السابق انتحاريون، فانتماءات الانتحاريين الفكرية والقومية والأيديولوجية معروفة للجميع ولا داعي لأن نوهم أنفسنا حول هويتهم ونقفز إلى استنتاجات غير مدروسة وغير صحيحة ولا تخدم الأمن الذي يسعى الجميع إلى إرساء دعائمه. الأمن لا يتحقق بتوجيه الاتهامات دون أدلة أو انتزاع الاعترافات من المتهمين تحت التعذيب، ولا بإطلاق صفة «مجرمين» على المتهمين كما يحلوا لبعض القادة الأمنيين أن يصفوهم، ولا بتجنيد مئات الآلاف من رجال الشرطة والجيش دون أن يكون بينهم خبراء أمنيون لديهم معرفة تفصيلية بالأخطار الأمنية، ويعملون ضمن مؤسسة أمنية متماسكة ومستقلة سياسياً توضع تحت تصرفها كل الإمكانات التي تحتاجها.
الاعترافات أثناء التحقيق لا تحصل في الدول القوية والمستقرة سياسياً وأمنياً، بل يبقى المتهم ينكر التهم الموجهة إليه حتى بعد إدانته، ثم يتقدم بطلب استئناف ضد الحكم الصادر بحقه وهذا حق يكفله له القانون على الأقل مرة واحدة، وأحياناً مرتين إن توفرت أدلة جديدة تخدم المدان لكنها لم تُقدم سابقاً. في بريطانيا على سبيل المثال، أعيدت بعض الدعاوى إلى المحاكم بعد سنين عديدة من إدانة المتهمين، وأجريت محاكمات جديدة برأت المدانين ليطلق سراحهم وتعوضهم الدولة عن الضرر المعنوي والمادي الذي لحق بهم وبفقدانهم حريتهم، وحصلوا على مبالغ طائلة بعضها بلغ مليوني دولار تقريباً للشخص الواحد، وأبرز هذه القضايا هي قضية «ستة برمنغهام» و «أربعة غيلفورد». إن عرض هذه «الاعترافات» المتعجلة على شاشات التلفزيون هو دليل على ضعف الدولة العراقية وضعف نظامها السياسي وضعف ثقة قادتها بنظامهم وبأنفسهم وعدم كفاءة قادة الأجهزة الأمنية الذين يلجؤون إلى القسر والتهديد وربما التعذيب من أجل انتزاع اعترافات من معتقلين، هم مجرد متهمين ضعفاء، سواء كانوا متورطين فعلاً بالجرائم التي اتهموا بها أم لا. الدولة القوية لا تستعرض عضلاتها على مواطنيها عبر الاعترافات التي لا تعمل إلا على إضعاف ثقة مواطنيها بها، خصوصاً أن ذاكرة الشعب العراقي لم تنس بعد سلسة «الاعترافات» المنتزعة عبر التعذيب خلال السنين السابقة والتي لم تعزز قوة النظام آنذاك بل دفعت حتى الموالين لأن يشككوا بعدالته ويتخلوا عنه. ليس من المعقول أن يسارع شخص خطَّطَ لأعمال إجرامية وقام بتنفيذها، إلى الاعتراف بجرمه لمجرد إلقاء القبض عليه.
فهذه الأمور لا تحدث في الظروف الطبيعية، ما يعني أن هؤلاء «المعترِفِين» قد أُرغموا على ذلك بطريقة أو بأخرى، وقد يكونون أبرياء لأن الاعتراف أثناء التحقيق الأولي لا تأخذ به المحاكم الأصولية كدليل إلا إذا أكده المتهم في المحكمة لاحقاً. رئيس الوزراء يتهم الكتل السياسية الأخرى بأنها السبب وراء التدهور الأمني لأنها لم تقف مع الحكومة، وهذا حقاً أمر غريب لأن الأجهزة الأمنية المهنية وغير المسيسة لا تتأثر بالأجواء السياسية التي تتسم بالجدل دائماً في كل البلدان الديموقراطية. المشكلة هي أن الأجهزة الأمنية العراقية شُكلت بترشيحات من الأحزاب السياسية الحالية ما جعلها تتأثر بالتحالفات السياسية المتغيرة. كان رئيس الوزراء قبل تفجيرات وزارتي المالية والخارجية في 19 آب (أغسطس) يفتخر أنه حقق الأمن وقضى على الإرهاب، وقد كسب شعبية كبيرة آنذاك تجلت بتقدم قائمته في انتخابات مجالس المحافظات، لكن ذلك قد تغير الآن وأصبح كثيرون يستمعون آراء منتقديه ويقتنعون بها، فالأمن في الحقيقة لم يتحقق، بل لا يشعر أي شخص مستقل بالأمن على سلامته الشخصية بعد التهديدات الخطيرة التي تعرض لها صحافيون مستقلون كأحمد عبد الحسين ووارد بدر السالم، إثر مقالات نقدية كتبوها في صحف عراقية، ومحاولة اغتيال الصحافي عماد العبادي بعد توجيهه انتقادات صريحة للسياسيين. التدهور الأمني الأخير في العراق أضر سياسياً بالمالكي وائتلافه وأفاد خصومه ومنتقديه، فهل هناك يا ترى أبعاد سياسية داخلية لهذا التدهور؟ كثيرون يرون أن من الصعب جداً على خمس سيارات مفخخة أن تسير في مناطق مختلفة من بغداد وتنفجر في أوقات متقاربة قرب أهداف حساسة لتقتل مئات الأبرياء، مع وجود أعداد هائلة من الشرطة والجنود ونقاط التفتيش وكاميرات المراقبة والأجهزة الكاشفة، دون أن يكون هناك متنفذون أمنيون أو مطلعون أمنياً، قد ساعدوا منفذي العملية وسهلوا مهمتهم. التحدي الكبير الذي يواجه العراق الآن هو إحداث تحول نوعي في الأجهزة الأمنية بحيث تكون مهنية ومحايدة وفعالة، وعندئذ فقط ستخدم العراق ككل وليس أهدافاً سياسية وحزبية.
* كاتب عراقي.
تعليقات
إلى الدكتور محمد علي مجيد
يبدو أنك لم تقرأ لحميد الكفائي من قبل ولا تعرف عنه شيئا لذلك اتهمته بموالاة إبراهيم الجعفري. لو قرأت مقالاته المنشورة في هذه الجريدة لوجدت أن إبراهيم الجعفري قد نال نصيبه من النقد. الكاتب لم يقل إن المسلحين لم يأتوا من سوريا أو أنهم غير مجرمين بل يقول إن عرض اعترافات لهم على التلفزيون يشير إلى أنهم ربما عذبوا وإجبروا على الإدلاء بهذه الاعترافات وهذا مخالف للقانون أولا، وثانيا فهو يعني أن المجرمين الحقيقيين لا يزالون طلقاء يمارسون جرائمهم وليس هناك مصلحة لأحد في كل هذا.!!
اتمنى ان تفهم الموضوع الى المعلق محمد علي مجيد
العراق بث اعترافات