الهدف من المؤتمر واضح من العنوان: بحث سبل إعادة الإعمار وبناء مشاريع البنية الأساسية (التحية) التي دمرتها عقود من الحروب والإرهاب والاقتتال الداخلي والفساد والإهمال، وكيف يمكن الحكومة العراقية أن تشجع الشركات الأجنبية على العمل في العراق والمساهمة في دعم بنيته الأساسية.
إنه نشاط خارج عن المألوف في بلد يكتوي يوميا بنيران الانفجارات والاغتيالات والتجاذبات الإقليمية والدولية ويتنازع فيه سياسيوه على المواقع الرئيسية والثانوية على حد سواء، ويختصمون ويختلفون على كل شيء، من الدستور وسياسة الدولة إلى المسلسلات التلفزيونية التي تعرض في القنوات الفضائية.
والأخيرة ليست مزحة أبدا، فقد ناقش البرلمان العراقي قبل عامين مسلسل (الحسين) الذي عرضه عدد من المحطات الفضائية العربية وقرر منع بثه في العراق! متناسياً أنه لم يعد ممكنا التحكم بوسائل الإعلام العابرة للقارات، فقد تحرر الإعلام من المناطقية وتحكم الحكومات الوطنية وأصبح عالمياً بكل ما للكملة من معنى. وقد امتثلت لقرار البرلمان العراقي قناة واحدة اسمها ومقرها “بغداد” وهي قناة حزبية تابعة للحزب الإسلامي العراقي (السني) الذي رأى حرجاً سياسياً في الاستمرار في بث حلقات المسلسل في وقت تحتج فيه الأحزاب الشيعية على الفكرة.
كما يعتبر المؤتمر نشاطاً طال انتظاره ونسيه السياسيون في زحمة التنافس على المواقع والمناصب. فالعراقيون في مختلف مناطق العراق يعانون بشكل يومي من نقص الخدمات وتدني البنية الأساسية للاقتصاد من طرق وجسور ومبان مدرسية وحكومية ومستشفيات وحدائق عامة وشوارع معبّدة ومجارٍ صحية ومحطات تنقية المياه ومحطات توليد الطاقة الكهربائية الكافية لبلد واسع كالعراق يقطنه خمسة وثلاثون مليون نسمة.
وعلى رغم توفر الأموال الضرورية للإنفاق على مشاريع الخدمات والبنية الأساسية، إلا أن الكثير من الشركات العالمية المهمة لم تتحمس للاستثمار في العراق بسبب الوضع الأمني المتدهور والفساد وعدم الاستقرار الذي تعكسه الخلافات السياسية.
والمطلك هو زعيم كتلة سياسية علمانية (العراقية العربية) عابرة للحدود الطائفية على رغم أنها تمثل المناطق السنية في وسط العراق أكثر من غيرها. وقد أبدى المطلك منذ تشكيل حكومة المالكي الثانية مرونة كبيرة وحنكة مثيرة للإعجاب ببقائه في الحكومة، على رغم اختلافه المعلن مع رئيس الوزراء في العديد من السياسات، وتركيزه بالدرجة الأساس على الإعمار والخدمات التي يعاني العراقيون جميعاً من تدنيها.
آمال كثيرة يعقدها المسؤولون العراقيون على استقطاب الاستثمارات الأجنبية من أجل إعمار العراق، ولكن يجب ألا تكون لديهم أوهام. فالإعمار لا يحصل عبر المؤتمرات فقط، بل يتحقق عندما تكون هناك إرادة لدى الأطراف السياسية الرئيسية في البلد وسعي حثيث لإنجازه وعدم ادخار أي جهد من أجل تحقيقه، حتى مع بقاء الاختلافات السياسية التي لن تنتهي ولا يجب أن تنتهي فهذه طبيعة الحراك الديمقراطي.
الشركات الأجنبية الكبيرة التي عزفت حتى الآن عن المشاركة في الإعمار في معظم المجالات، باستثناء قطاع النفط، ستأتي إلى العراق إن رأت أن الخلافات السياسية لا تؤدي إلى إعاقة عملها. وستأتي إن رأت إن هناك توجها جاداً لدى الكتل السياسية الكبيرة للقضاء على الفساد ورفع مستوى الشفافية وتعزيز البيئة القانونية والتنافسية. وستأتي إن وجدت مسؤولين مهنيين يتفهمون العمل وملتزمين بإعمار بلادهم وتطويرها ولا يبحثون عن مكاسب شخصية أو يسعون للإثراء على حساب المال العام. نعم الفساد يمنع العديد من الشركات الكبرى من الاستثمار لأنه سيكون على حساب سمعتها وأرباحها وجودة العمل الذي تتميز به عن منافسيها.
صحيح أن الشركات تبحث عن الأرباح، لكن الأخيرة لا تتحقق في بيئة يعوزها الاستقرار ويكتنفها الغموض وتعصف بها الخلافات التي تُذهِب الأمن وتطرد الكفاءات وتؤخر الأعمال. تحقيق الإعمار ليس أمرا مستحيلا في بلد ثري كالعراق يطفو على بركة من النفط ويتمتع بطاقات وكفاءات بشرية كبيرة، وفيه عشرات الآلاف من حملة شهادات الدكتوراه والماجستير. بل هو ممكن، ومن المستغرب جداً أنه لم يحدث بشكل كبير بعد عشر سنوات على التغيير والانفتاح.
رعاية السيد المطلك لهذا المؤتمر ومشاركة وزراء ومسؤولين آخرين من كتلة مختلفة فيه لها دلالة رمزية مهمة، وهي دليل على أن ما نسمعه من اختلافات عميقة وحروب طائفية وتدهور للأمن ليس المشهد الوحيد الذي يجب علينا أن نتابعه في العراق. فهناك مشهد آخر مشرق يقوده دعاة الحياة والتقدم والإعمار. المستقبل هو لدعاة الحياة دون شك، أما دعاة الخراب والدمار والطائفية والماضوية فلن يكسبوا غير الخيبة والخسران ولعنة التاريخ. ثروة العراق تكفي لأن يعيش كل سكانه برخاء وكرامة وحرية، لكن المعارك العبثية الحالية بين أبنائه ستؤخر تمتع أي منهم بها.