من المقاييس المتبعة لنجاح النظام الديمقراطي أن تنتقل السلطة سلمياً من الحكومة إلى المعارضة مرتين متتاليتين. فإن طبقنا هذا المعيار على العراق فإن السلطة لم تنتقل في الحقيقة من الحكومة إلى المعارضة مطلقاً.
فمنذ الانتخابات الأولى عام ٢٠٠٥، والسلطة باقية بأيدي الجهة السياسية نفسها وهي الائتلاف الشيعي الذي تغير اسمه مرات عدة، من الائتلاف الوطني العراقي الموحد إلى الائتلاف الوطني العراقي الذي انقسم إلى كتلتين قبيل الانتخابات الماضية هما (الائتلاف الوطني ودولة القانون) ليعود إلى التوحد الهش بعد الانتخابات باسم التحالف الوطني.
وفي روسيا أيضاً لم تنتقل السلطة بشكل فعلي من أيدي بوتين منذ توليه السلطة أواخر أيام الرئيس الروسي الأول بعد التحول الديمقراطي، بوريس يلتسن، فبعد انتخابه لدورتين رئاسيتين متتاليتين، انتقلت السلطة إلى حليف بوتين وتابعه ديميتري مدفيديف، الذي عين بوتين رئيساً للوزراء لأربع سنوات. وبعد انقضاء ولاية مدفيديف الأولى، لم يرشح إلى ولاية ثانية كما يفعل معظم الرؤساء المنتخبين في العالم، والسبب هو أن بوتين يريد أن يعود إلى الرئاسة وهذا ما حصل فعلاً. انتخب بوتين رئيساً فعين مدفيديف رئيساً للوزراء. مثل هذه التنقلات السهلة بين المناصب والمرتبة ترتيباً (أنيقاً) لا تُشعِر الناخب الروسي أن هناك ديمقراطية حقيقية.
إلا أن الديمقراطية المحلية، مقابل الديمقراطية الوطنية، يمكن أن تغير الصورة على الأمد البعيد حتى في نظر الناخب المحلي اليائس وطنياً. في الانتخابات المحلية المتعاقبة في العراق، تغيرت الحكومات في معظم المحافظات العراقية وانتقلت من حزب سياسي إلى آخر منافس عدة مرات خلال السنوات العشر الماضية. في بغداد مثلاً، كانت السلطة قبل الانتخابات المحلية الثانية عام ٢٠٠٩ بأيدي المجلس الإسلامي الأعلى، لكنها انتقلت إلى دولة القانون في انتخابات عام ٢٠٠٩. أما في الانتخابات الثالثة التي أجريت قبل شهرين فقد انتقلت إلى حكومة ائتلافية مكونة من التيار الصدري الذي ينتمي إليه محافظ بغداد، وقائمة متحدون التي ينتمي إليها رئيس مجلس المحافظة، والمجلس الإسلامي الأعلى الذي حصل على مناصب حكومية بما فيها منصب أمين بغداد المهم.
وفي البصرة أيضاً حصل الشيء نفسه، فانتقلت السلطة من المجلس الأعلى إلى حزب الفضيلة عام ٢٠٠٦ ثم إلى حزب الدعوة في ٢٠٠٩ لتخرج منه في عام ٢٠١٣ إلى ائتلاف جديد. والملاحظ في الانتخابات المحلية الأخيرة في العراق إن هناك ميلاً لاستبعاد كتلة دولة القانون، التي يقودها وطنياً رئيس الوزراء نوري المالكي، من قيادة الحكومات المحلية. حصل هذا في بغداد وديالى والنجف والديوانية والبصرة والناصرية.
هناك ملاحظة مهمة جداً في الانتخابات الأخيرة وهي غياب الخطاب الديني بين المتنافسين، وقد قاد هذا إلى التركيز على القضايا التي تهم حياة الناخب بدلاً من المزايدات والخطابات الدينية.
الملاحظة الأهم في تشكيلات الحكومات المحلية الأخيرة في العراق هي عدم وجود اصطفافات طائفية، وقد يكون السبب هو غياب الخطاب الديني المشار إليه أعلاه. ففي بغداد ائتلف التيار الصدري والمجلس الإسلامي الأعلى الشيعيان، والمتنافسان سابقاً، مع قائمة “متحدون” السنية لتستبعد القوى الثلاثة قائمة دولة القانون الشيعية. وفي ديالى حصل الشيء، نفسه فقد ذهب منصب المحافظ إلى “متحدون” بينما ذهبت رئاسة مجلس المحافظة إلى التيار الصدري.
وعلى خلاف الانتخابات البرلمانية في الدورتين السابقتين التي لم تغير لون الحكومة السياسي، فإن الانتخابات المحلية في العراق خلال الدورات الثلاث الماضية قد أشعرت الناخب حقاً أن النظام الديمقراطي مازال قائماً وفاعلاً إذ أتت بوجوه جديدة للحكومات المحلية، كما تغيرت المواقع وخرج البعض كلياً من الحكومة، وجاءت إلى السلطة أحزاب كانت معارضة للحكومات السابقة.
لكن الذي ينتظره الناخبون العراقيون الآن هو كيف يمكن لهذه الحكومات الجديدة أن تغير الواقع الخدمي والمعاشي الذي يعيشه المواطن العراقي. هل ستتمكن من تحسين الكهرباء وأداء المستشفيات والمدارس وتعبيد الطرق؟ هل ستنجو المدن العراقية الشتاء المقبل من الفيضان الذي يتكرر كل عام؟
في محافظة ميسان الفقيرة في الجنوب، والتي تطفو على بحيرة من النفط، أعيد انتخاب المحافظ علي دواي الذي اكتسب شعبية كبيرة في عموم العراق بسبب عمله الدؤوب والمتواصل من أجل تحسين الظروف الخدمية في المحافظة. إعادة انتخابه تعني أنه قام بإنجازات دفعت مواطني المحافظة للتصويت له مرة أخرى. وفي بغداد أصبح علي التميمي محافظاً وقد بدأ العمل على طريقة علي دواي، مرتدياً بزة العمل الزرقاء ومتجولاً في الشوارع والأحياء. المحافظان ينتميان إلى التيار الصدري أو كتلة الأحرار التي يتزعمها السيد مقتدى الصدر. هل سينجح علي التميمي في بغداد كما نجح علي دواي في ميسان؟ ربما، لكن الظروف مختلفة في بغداد والتحديات أكبر. فهناك ما يقارب سبعة ملايين نسمة يعيشون في بيئة مكتظة تنعدم الخدمات كليا في بعض أجزائها، خصوصا خدمات تصريف المياه، بنوعيها الثقيل والخفيف، بالإضافة إلى انقطاع الكهرباء وعدم توفر مياه الشرب باستمرار وتردي حالة الطرق والجسور.
قد يساعد المحافظَيْن أن وزراء البلديات والأشغال العامة والإعمار والإسكان والعمل والشؤون الاجتماعية هم من نفس الكتلة السياسية وقد يتمكنون من تسهيل إكمال المشاريع الخدمية والتنموية في المحافظتين. إن حصل هذا فعلاً فإن التيار الصدري سيكسب المزيد من التأييد الشعبي في الانتخابات المقبلة أو التي تليها.
إن كانت الانتخابات على المستوى الوطني قد فشلت في إعطاء صورة مشرقة للديمقراطية في العراق، فإن الانتخابات المحلية الأخيرة قد غيرت هذه الصورة ورفعت الأمل بأن النظام الديمقراطي بدأ يترسخ محلياً وأنه سوف يتوسع وطنياً لاحقاً.