يتساءل كثيرون عن سبب عدم اضطلاع المثقفين في قيادة المجتمع وإيجاد الحلول لمشاكله الكثيرة خصوصاً مشكلة العنف والإرهاب وعدم التسامح. ويتكرر هذا السؤال في أوقات الأزمات التي تدفع بالناس إلى البحث عن حلول. لكن المثقفين والمفكرين عادة ما يصمتون عندما تعلو أصوات الإرهابيين والمتعصبين والأيديولوجيين. المثقف والمفكر لا يملكان سلاحاً سوى الرأي والكلمة والإبداع وهذه بضاعة لا يقيم المتعصبون لها وزناً بل يحاربونها ويحاولون اجتثاثها من الجذور.
عندما يعتكف المثقفون ويمتنعون عن التفاعل مع المجتمع، فهذا نذير شؤم ومؤشر خطر وعلى المجتمع ممثلاً بقادته أن يسعى لإزالة الأسباب المؤدية إلى هذا الاعتكاف والتقوقع.
في الخمسينات والستينات كان رائد التنوير في العراق، الدكتور علي الوردي، من أكثر المفكرين العراقيين نشاطاً، فلا يمر أسبوع من دون أن يصدر له مقال أو كتاب أو دراسة، أو يبث له حديث إذاعي أو تلفزيوني أو يلقي محاضرة تفتح الأذهان وتثير الجدل. لم يتردد الوردي في نقد الظواهر الاجتماعية والحديث في الدين ونقد رجاله كما رأينا في كتابه الجريء «وعاظ السلاطين»، ولم يرَ رجال الدين آنذاك في كتبه وآرائه تهديداً للدين أو لموقعهم في المجتمع بل ردّوا عليه وقابلوا الحجة بالحجة. فقد خصّه السيد مرتضى العسكري بكتابين، بينما كتب عنه عبدالرضا صادق كتاباً تضمن نقداً قاسياً، إذ وصل الى حد الشتائم لكنه ظل في إطار الحوار.
بقي الوردي حراً ولم يخشَ أحداً وظل يمارس نشاطه الفكري التنويري من دون إعاقة. انتقد اللغة العربية والدين الإسلامي والمجتمع العراقي والسياسيين والمؤرخين والتربويين والتجار وأهل الريف وأهل المدينة وأهل البساتين والبدو ولم يتردد في القيام بأي عمل من شأنه أن يقود إلى رفد المعرفة بالمزيد. فقد زار الوردي حتى الملاهي الليلية ليس للمتعة الشخصية، بل لدراستها ومعرفة طبائع ومشاكل روادها وأسباب ترددهم عليها.
في أواخر السبعينات، صمت الوردي ولم يتحدث بشيء بل اكتفى بنشر ما كتبه في الستينات ومطلع السبعينات، وهو كتاب «لمحات» بستة أجزاء (ثمانية كتب). وعندما سُئل عن السبب قال إنه يعكف على كتابة مذكراته «التي ستصدر بعد مماته» بل تحجج بأن دور النشر العراقية لا تعتني بالنصوص الأدبية والكتب التي قال إنها تمتلئ بالأخطاء المطبعية كما ورد في مقابلة له نشرها الكاتب حميد المطبعي في الثمانينات. وبالتأكيد لم يقتنع أحد بهذه الأجوبة، فلا يمكن مفكراً أن يتوقف عن الكتابة لأن دور النشر لا تعتني بالنصوص وتشذّب الكتابة من الأخطاء الإملائية، لأن حل هذه المشكلة سهل جداً.
السبب الحقيقي لصمت الوردي ومثقفين وشعراء وكتاب وفنانين آخرين كثيرين في ذلك الوقت هو الخوف من الاضطهاد الذي سيلاقونه عند التعبير عن أفكارهم، وكانت في ذلك الزمان جهة واحدة تمارس الاضطهاد ألا وهي حكومة صدام حسين.
مات الوردي في تموز (يوليو) ١٩٩٥ ولم تصدر مذكراتُه حتى الآن ولا نعرف إن كان قد كتب مذكراتٍ حقاً أم لا. فعندما يُسأل أولادُه يقولون إنه لم يترك شيئاً. لقد صمت علي الوردي قبل رحيله بعقدين وقد حُرمنا من أفكاره بسبب القمع والتعصب والاضطهاد التي مارسها صدام حسين وأتباعُه في العراق.
وصمت مع الوردي كثيرون بينما غُيِّب كل من تجرأ على الحديث ولا يهم إن كان بعثياً أو إسلامياً أو شيوعياً أو قومياً أو ليبرالياً، فقد أقدم النظام على إعدام رجل الدين الشيعي محمد باقر الصدر ورجل الدين السنّي عبدالعزيز البدري، وقبل ذلك قتل التجار اليهود وهجَّر الكرد الفيلية وذوي الأصول الإيرانية، كما صفّى جسدياً العشرات من قادة حزب البعث واغتال آخرين في الخارج مثل عبدالرزاق النايف في لندن وحردان التكريتي في الكويت ومهدي الحكيم في السودان وطالب السهيل في لبنان، ولم يسلم منه حتى البعثيون العرب كمنيف الرزاز، كما لم يتردد في تغييب المفكرين والصحافيين الذين ضاقوا ذرعاً بتعسف النظام واستهتاره بأبسط الحريات من أمثال عزيز السيد جاسم وضرغام هاشم. بينما فر المعارضون الآخرون أو سُجِنوا أو صمتوا.
يجب ألا نتوقع من المثقف أن يكون بطلاً، فهو لا يسعى للعب هذا الدور وغير مؤهل له. إنه مفكر ومبدع وفنان ومشكِّل رأي ومولد أفكار. فإن وَجَدَ من يتلقى أفكاره وفنونه وإبداعه ويتأثر بها يكون مؤثراً، ولكن في غياب الجمهور الباحث عن الفكر والثقافة، فإن المثقف يصبح هامشياً، ليس مختاراً بل مضطراً.
المثقف لا يعمل عندما يكون خائفاً وهو يبتعد قدر الإمكان عما ينغص حياته ويشوش عليه أفكاره… إنه يساهم في تطوير المجتمع إن كان المجتمع مستعداً لذلك وراغباً فيه وإن كانت هناك إمكانية لأن تأخذ مساهماتُه طريقها إلى التأثير أو في الأقل ألا تعود عليه بالوبال والموت والضرر.
في العراق مثلاً، لا توجد حالياً أي قيود رسمية على المثقف، وبإمكانه أن يقول ما يشاء من دون أن يسائله أحد. لكن ما يخيف المثقف هو ظواهر أخرى كالعنف والتعصب الديني والقومي والطائفي وهي ظواهر لم تكن سائدة سابقاً.
ما يهدد السلم الأهلي في العالم العربي اليوم هو التعصب الديني والمذهبي والفهم الخاطئ للدين ورفض الرأي الآخر المختلف ومحاولة تغييبه بالقوة. هناك قوى داخلية وخارجية تعمل على زعزعة المجتمع وزرع الفرقة فيه وهذه قوى كبيرة لا يقوى المثقفون على مصارعتها، وهناك قوى محلية لا تريد أي دور للمثقف لأنها مستفيدة من حالة التعصب والعنف والجهل ولا أحد يستطيع نقدها بسبب استعدادها لتصفية معارضيها جسدياً، وهناك قوى تسعى لتجهيل المجتمع وإشاعة الخرافات تحت مسميات شتى لأنها ترى في ذلك فائدة لها.
عندما تقوى الدولة وتتمكن من توفير أجواء الحرية التامة لكل أفراد المجتمع وتكون محايدة في تعاملها معهم، عندها سيمتثل أفراد المجتمع جميعاً إلى الدولة وتكون مرجعيتهم واحدة وهي دولة القانون والرفاهية. عندها سيتمكن المثقفون من التفاعل مع المجتمع والتأثير فيه وتغييره.
في العراق، قُتل المئات من المثقفين والكتاب والصحافيين والأكاديميين منذ التغيير وحتى الآن ولم تُعرف تفاصيل تلك الجرائم وأسبابها الحقيقية سوى السبب العام، وهو ضعف الدولة وتفشي ظاهرة عدم التسامح ومحاولة إزالة المفكر والمثقف عن موقعه الإصلاحي. وفي ظل وجود الأخطار المحدقة بحياة المثقفين والمفكرين، فإنهم بالتأكيد سيصمتون أو يهاجرون إلى بلدان أخرى أكثر أماناً وعندها لن يكونوا مؤثرين وإن تكلموا. من يريد للمثقف أن يلعب دوراً اصلاحياً عليه أولاً أن يوفر له الحرية والحماية كي يمكِّنه من الإبداع.
حميد الكفائي