اهتممت منذ الصبا بالصراع في جنوب أفريقيا وقيادة نيلسون مانديلا ورفاقه لحركة التحرر من العنصرية، وكنت أتابعهم بشغف في وسائل الإعلام، وقد صادف أنني التقيت أثناء دراستي في لندن مطلع الثمانينات بشخص أبيض من جنوب أفريقيا كان قد شاركني السكن، وكان هو الآخر من المعجبين بمانديلا والمتعاطفين مع الحركة التي يقودها. أخذ صديقي يحدثني عن الرجل والبلد فازددت اهتماماً وتعلقاً بهما وبدأت أقرأ المزيد عنهما، وطالما مررت بساحة الطرف الأغر وسط لندن لمشاهدة الاعتصام الذي أحياه بريطانيون لمدة ٢٧ عاماً أمام سفارة جنوب أفريقيا ولم ينتهِ إلا بإطلاق سراحه في ١١ شباط (فبراير) ١٩٩٠. لم أتردد في شراء القميص الذي وزعه أنصاره والذي كُتب عليه بالإنكليزية «أطلقوا سراح نيلسون مانديلا» حتى جمعت من تلك القمصان أعداداً كبيرة.
ترقبت مع باقي المهتمين في العالم إطلاق سراح مانديلا وقد رأى العالم يومذاك رجلاً سبعينياً مختلفاً تماماً عن الشاب الذي دخل السجن مطلع الستينات. كان كثيرون يعتقدون بأن الهالة التي أحاطت بمانديلا تعود إلى دخوله السجن، إلا أن هالة مانديلا الطليق قد فاقت أضعافاً هالة مانديلا السجين. في إحدى مناقشات البرلمان البريطاني عام ١٩٩٠، سأل زعيم المعارضة، نيل كينوك، رئيسة الوزراء مارغريت ثاتشر: «كيف تتبنّين سياسة كهذه وأنت تعلمين أن نيلسون مانديلا يعارضها؟»، فأجابته ثاتشر: «مع احترامي لمانديلا، فإنني أختلف معه في هذه القضية كما اختلفت معه في قضايا أخرى».
ثلاث صفات شكلت شخصية مانديلا التي عرفها العالم وهي الثبات والإيثار والإنسانية. لقد ذُهِل القضاة والمحامون عندما وقف مانديلا في المحكمة عام ١٩٦١ ليلقي خطاباً سياسياً بدلاً من الدفاع عن نفسه في ما يعرف بـ «المناشدة القضائية» مع علمه أن ذلك يقوده إلى الإدانة. لكنه آثر أن يوصل رسالته الإنسانية على أن يبرئ نفسه من تهمة العمل على إسقاط النظام العنصري التي يتشرف بها.
طوال حياته التي امتدت ٩٥ عاماً، لم يلِن مانديلا في قضية المبادئ التي حملها، وكان أبلغ ما قاله في المحكمة في استجوابه لسكرتير رئيس الوزراء، بيرنارد، إذ استدرجه وأحرجه في الأسئلة وأرغمه على الاعتراف بتجاهل الحكومة الحقوق الأساسية للغالبية الأفريقية. وعلى رغم التمييز العنصري الذي مارسته الأقلية البيضاء، فإن مانديلا لم يحمل تجاه البيض أي ضغينة ولم يُلْجِئه الظلم والإذلال إلى سلوك طريق الثأر والانتقام.
تمسّكه بالعدالة استقطب الناس من كل الأعراق إلى المؤتمر الوطني الأفريقي. إلا أن هذه الحركة التي اكتسبت شعبية في الغرب، لم ترُق لكثيرين من الأفارقة، داخل جنوب أفريقيا وخارجها الذين فضلوا (المؤتمر القومي الأفريقي) عليها لأن الأخير يرفض مبدأ التعايش مع البيض، فظل الصراع قائماً بين الحركتين حتى انتصرت التعددية في النهاية بفضل حنكة مانديلا وشعبيته العالمية.
اكتسب روليهلاهلا مانديلا اسم «نيلسون» عند تسجيله في المدرسة إذ جرت العادة في النظام التعليمي البريطاني المعمول به في جنوب أفريقيا آنذاك أن يُعطى كل تلميذ اسماً إنكليزياً، وقد اختارت معلمته، السيدة مينديغين هذا الاسم له تيمناً بالقائد البريطاني اللورد نيلسون الذي هزم الفرنسيين في معركة الطرف الأغر. احتفظ مانديلا باسمه الجديد ولم يرفضه لاحقاً على أساس أنه مفروض عليه. بنو البشر متساوون في نظره فلم يشعر بالعيب أن يحمل اسماً أجنبياً. ويخاطب مانديلا باسمه القبلي «ماديبا» عندما يُقصد من ذلك التبجيل، لكنه عُرف عالمياً باسمه المدرسي الإنكليزي. ويعترف مانديلا بأنه معجب بالإنكليز وثقافتهم التي تمسك بها الأفارقة كبديل لثقافة النظام الحاكم الأفريقانية (الهولندية). لكنه لا يخفي سخطه من الإمبريالية الإنكليزية التي جاءت بالتمييز إلى بلده.
لم يخفِ مانديلا أخطاءه وإخفاقاته وحتى اضطراره إلى الكذب والغش أحياناً في صباه، فهو في نهاية المطاف بشر كباقي الناس ولا بد له أن يمر بكل المراحل، ولم ينكر فضل الآخرين عليه، بل يعترف أن ملهمه الأول كان وولتر سيسولو الذي أقنعه بالانتماء إلى المؤتمر الوطني الأفريقي. وسيسولو هذا هو صاحب مكتب العقارات في جوهانزبيرغ الذي تعرف إليه مانديلا في شبابه ثم دخل السجن معه وبقي لفترة مماثلة وكان أحد أهم قادة حركة التحرر الأفريقية. لم ينسَ مانديلا صنيعَ زميله في العمل، غور راديبي الذي استقال من وظيفته في شركة المحاماة (ويتكين، سايدلسكي أند إيدلمان) كي يسمح له بشغلها قائلاً له: «لن تتقدم في هذه الشركة إن بقيت أنا فيها، والأفضل أن أغادرها كي تضطر إلى تعيينك محلّي».
عظمة مانديلا لم تأتِ من فراغ، إذاً، فقد تربى في بيئة معطاء أساسها الإيثار والكرم والتضحية والتمسك بالقيم الإنسانية التي رفل منها مانديلا منذ الصغر. فبعد وفاة والده وهو في سن التاسعة، تبناه قريبه، أمير شعب الثمبو في ترانسكي، جونغينتابا دالينيبو، ورباه كأحد أبنائه وأغدق عليه كرماً ما كان ليحصل عليه في بيت أبيه.
إعجابي بمانديلا لم يكن مطلقاً، فقد عَلُق في ذهني مؤاخذتان على الرجل، وقد أكون في هذا موغلاً في المثالية. المؤاخذة الأولى هي زيارته ليبيا وثناؤه على العقيد القذافي واعترافه له بالفضل. تلك الزيارة أعطت القذافي دعماً معنوياً لا يستحقه. ربما شعر مانديلا بأن عليه أن يرد للقذافي فضله في دعم حركة التحرر في بلده، لكنه وفاءٌ ليس في محله لأن فيه تجاهلاً لجرائم القذافي بحق شعبه.
المؤاخذة الثانية هي توليه رئاسة جنوب أفريقيا. كنت دائما أرى مانديلا أعلى من رئيس دولة، فسلطته المعنوية تجاوزت حدود بلده ولم يحظَ شخصٌ غيره بمثل هذه السلطة الواسعة على شعوب الأرض وحكوماتها. إنها سلطة جعلت الإنسان الأفريقي يشعر بالفخر والثقة بالنفس وربما ساهمت في وصول شخص من أصل أفريقي إلى رئاسة الولايات المتحدة. ربما أراد مانديلا من خلال الرئاسة أن يشرف بنفسه على عملية المصالحة التي نجحت نجاحاً باهراً لتصبح مثالا يحتذى به في باقي أنحاء العالم.
حميد الكفائي
https://goo.gl/nLu5EW