مجلة الهدى
تصاعدت أعمال الإرهاب في العراق خلال العام الماضي بشكل مرعب حتى أنها زعزعت ثقة الكثيرين بقدرة الأجهزة الأمنية على مواجهة الإرهابيين المسلحين بسلاح ليس هناك أمضى منه ألا وهو سلاح الجهل والتعصب.
لن أتدخل في شؤون الأجهزة الأمنية ولن أقدم لها أي نصائح كما استسهل كثيرون هذه الأيام إطلاق صفة “الخبير الأمني” على أنفسهم وأخذوا يقدمون الإرشادات للأجهزة المتخصصة التي يفترض أنها أكثر قدرة وخبرة منا نحن المدنيين على التعامل مع قضايا الأمن، لكن هناك حاجة ماسة لأن نبحث عن جذور المشكلة كي نجد تفسيرا لعجزنا عن حماية أنفسنا من الجماعات الإرهابية.
الانتحاريون دون شك مؤمنون أنهم على حق والدليل أنهم يقدمون أرواحهم العزيزة، التي يسعى كل الأحياء، بشرا وحيوانات، للحفاظ عليها وإبقائها أطول فترة ممكنة، يقدمونها دون ثمن في سبيل الهدف الذي يسعون من أجله وهو اجتثاث من يختلف معهم من الجذور عبر القتل والمحق الكلي. ولكن من جعل هؤلاء الانتحاريين، ومعظمهم من الشباب البائسين وقليلي الخبرة، يؤمنون هذا الإيمان الراسخ بأن قتلهم أخوانهم من بني البشر من النساء والأطفال سوف يكافئه الرب الرحمن الرحيم بالجنة وحور العين وأن النبي سوف يستقبلهم بالقبل والترحاب بعد ارتكابهم المجازر بحق الأبرياء؟
هنا تكمن العلة وهنا تجب المعالجة الأساسية وهذه ليست من اختصاص الأجهزة الأمنية بل من واجبات علماء الإسلام والاجتماع ومخططي التعليم والقادة الروحيين في العالم الإسلامي الذين ما زال بعضهم يحث الشباب على قتال الآخرين المختلفين عنهم دينيا أو مذهبيا ويغريهم بأن الجنة وحور العين بانتظارهم حال ارتكابهم هذه الأعمال الشنيعة.
معظم الانتحاريين ومدبري التفجيرات في العراق أو الذين يقفون وراءهم، أجانب جاءوا من أصقاع الارض المختلفة ليعملوا “في سبيل الله”، لكن هناك بين العراقيين من يسهِّل لهم مهامهم الشريرة ويزودهم بالمعلومات ربما لأسباب مادية أو لأحقاد في النفوس مستعصية على الشفاء، او الاثنين معا، وبالتأكيد بسبب غياب وازع الضمير وانعدام الإحساس بمعاناة الآخرين. العملية إذن تحتاج إلى جهود كبيرة وتنسيقٍ بين المؤسسات الدينية في الدول الإسلامية ودعمٍ إسلامي ودولي واسع وقد تستغرق عقودا من الزمن كي تؤتي ثمارها، لذلك فإن من الإجحاف أن نضع هذه المسؤولية الجسيمة على عاتق الأجهزة الأمنية الناشئة التي يدفع أفرادها حياتهم يوميا ثمنا للدفاع عن المجتمع ومؤسساته.
دوافع الإرهابيين ومن يقف وراءهم ويخطط لهم تتلخص بالضيق بالآخر وعدم قبول الاختلاف والشعور أنهم هم وحدهم يمتلكون الحقيقة ومن واجبهم إخضاع الناس جميعا لهذه “الحقيقة” أو أن مصالح الداعمين للإرهاب تستدعي إيذاء الآخر وخلق المشاكل له. ولأنهم سطحيون وفاشلون في إقناع الآخرين بصواب معتقداتهم ولأن حججهم ضعيفة وغير مقنعة، فإنهم يلجأون إلى استخدام القوة من أجل إلغاء الآخر، الذي لا يطيقون وجوده، والحلول محله بدلا من التعايش معه والتأمل في احتمال أن يكونوا هم على خطأ.
وإلى جانب ذلك هناك قوى داخلية وخارجية تشجع هذا الإرهاب لإضعاف من تعتبرهم خصومها وإعاقة الديمقراطية الحقيقية التي ترى فيها خطرا، متوهمة بأن هناك اتجاها واحدا للأحداث، لكنها تتناسى أن الإرهاب والعنف والتعصب ظواهر يمكن أن تنطلق في كل الاتجاهات، وأن العنف الذي يرتدي زيا مذهبيا معينا سرعان ما يخلق ضده النوعي الذي يقف بوجهه بنفس الشراسة أو ربما أكبر، وفي النهاية تستمر حلقة التأجيج المولِّدة للعنف والعنف المضاد، حاصدة أرواح الأبرياء ومتسببة في تدمير المجتمع.
قادتنا السياسيون يقولون إن هناك دولا تقف وراء الإرهاب في العراق، فإن كان الأمر كذلك فإن مهمتهم هي إيجاد الحلول لنا عبر التفاهم مع تلك الدول وتطمينها وتبديد مخاوفها أو ردعها، فهم القادة وأُلي الأمر وليسوا محللين أمنيين كي يشرحوا لنا الأسباب دون إيجاد الحلول. بإمكان مفكرينا ومحللينا وخبرائنا وقادة الرأي فينا أن يفسروا ويحللوا ويضعوا الخطط، لكن القادة وحدهم قادرون على تنفيذها عبر استخدام إمكانيات الدولة للتنسيق مع الدول الأخرى بهدف ملاحقة الإرهاب والقضاء عليه باعتباره خطرا يهدد الحياة.
ستبقى الأجهزة الأمنية تقارع الإرهاب وتقدم التضحيات، وربما تتمكن من الحد من هذا الموت المجاني الذي يتعرض له أهلنا في كل أنحاء العراق، إن نحن قدمنا لها الدعم الذي تستحقه وتحتاجه، لكن الحل الجذري لمشكلة الأمن سيبقى في أيدي قادتنا السياسيين الذين اخترناهم لقيادة الدولة. لم يعد ممكنا القبول بالتفسيرات والتحليلات فقط، نريد حلا جذريا لمشكلة الأمن، أو على الأقل خارطة طريق توصلنا إلى الحل النهائي. وقد يتطلب الحل قدرات سياسية ودبلوماسية وعلاقات دولية وأموال طائلة وصفقات قد تتضمن تنازلات ومراجعة لسياسات وممارسات عامة وخاصة، وهذا بالتأكيد يحتاج إلى خبرة وحنكة وشجاعة نأمل أن تكون متوفرة في الحكومة المقبلة. لقد عودنا بعض المسؤولين على الظهور في وسائل الإعلام بين الفينة والأخرى وإطلاق التهديدات لدول الاخرى، هي أكبر حجما وأكثر قوة استقرارا ونفوذا من دولتنا، متوهمين أن هذا الكلام يلقى إعجاب الناخبين الذين سيسارعون لإعادة انتخابهم وتنصيبهم زعماء وطنيين، لكن مثل هذا النهج العدائي والاستعدائي قد ثبت فشله ولم يعد يلقى استحسانا بين العراقين الباحثين عن حلول جذرية تحفظ لهم حياتهم وممتلكاتهم وكرامتهم ومستقبلهم.