قانون التقاعد العراقي يأبى أن يكون منصفا
فبراير/شباط 2014
المعاش هو حق لكل مواطن في الدولة الحديثة، وفي البلدان المتطورة يحصل كل مواطن على المعاش عند بلوغه سنا محددا أقره القانون للتقاعد، ولا يشترط أن يكون المرء موظفا في الدولة أو حتى القطاع الخاص كي يحصل على المعاش، فحتى العاطل عن العمل يحصل على المعاش عند بلوغه منتصف الستينيات في معظم دول العالم المتطورة، لكن حجم الراتب التقاعدي يتفاوت من شخص لآخر حسب الاستقطاعات التي دفعها إلى صندوق التقاعد عبر سني خدمته.
إلا أنه لا يمكن أي إنسان، مهما علا منصبُه، أن يتقاعد قبل سن التقاعد الرسمي إلا إذا كان ذلك ضمن عرض خاص من المؤسسة التي يعمل فيها، إذ تلجأ بعض الشركات أحيانا إلى إعادة هيكلة عملها وطاقمها الإداري، وخلال هذه العملية الاضطرارية، التي تحصل في أكثر الأحيان استجابة لظروف اقتصادية معينة، تَعرِض المؤسسة على بعض موظفيها أن يتقاعدوا مبكرا مقابل أن تدفع لهم تعويضات، لكن هذا يحصل في حالات استثنائية، والمعتاد هو أن يستمر الموظف أو العامل في عمله حتى بلوغه سن التقاعد الذي هو في العادة الخامسة والستون.
لم أسمع أن موظفا في البلدان الغربية أو الشرقية، سواء كان نائبا في البرلمان أم وزيرا أم مديرا عاما، قد حصل على التقاعد في سن الثلاثين أو الأربعين إلا في العراق. لقد ميّز قانون التقاعد السابق بين المسؤولين والناس العاديين، فسمح للمسؤولين الكبار أن يتقاعدوا في أي سن يعجبهم ودونما سبب ويحصلوا على ٨٠٪ من آخر راتب لهم، بينما أبقى موظفي الدولة الآخرين يعملون حتى بلوغهم سن ٦٣ واشترط أن يمضوا سنوات طويلة كي يحصلوا على النسبة نفسها. وبذلك تحول العراق إلى دولة متقاعدين شباب، إذ كان بإمكان أي مسؤول، من مدير عام وضابط كبير وعضو مجلس محافظة أو قضاء فما فوق، أن يتقاعد ليحصل على معاش يعادل ٨٠٪ من آخر مرتب تقاضاه.
أثناء تولي الدكتور أياد علاوي رئاسة الوزراء عام ٢٠٠٤، صدر القانون رقم ٩ الخاص بمجلس الحكم والذي مُنح بموجبه أعضاء مجلس الحكم ونوابهم والأمين العام ونائباه، حق التقاعد بدرجة وزير للعضو ودرجة وكيل للنائب والأمين العام ونائبيه، بينما حُرم الناطق الرسمي باسم المجلس، وهو كاتب هذه السطور، من هذا الحق الذي مُنح لآخرين لعبوا أدوارا أقل أهمية في وقت كان الناطق أحد أبرز شخصيات المجلس وأكثر من حمل همه ودافع عنه وخاطر بحياته من أجله، باعتراف جميع الأعضاء ونوابهم. مرة أخرى، لا أريد الخوض في أسباب هذا التمييز ضد الناطق لأنني لا أعرفها بدقة ولكن يمكن القول بثقة مطلقة إن حذف منصب الناطق من القانون رقم ٩ وتعديلاته لم يكن صدفة أو نتيجة إهمال بل كان مقصودا. لم أهتم كثيرا لهذا الحرمان المقصود ولم أعترض لأنني لم أكن راغبا في التقاعد أصلا، وما كنت لأتقاعد حتى لو أدرج منصبي ضمن القانون، لكنني شعرت منذ ذلك الحين أن الدولة الجديدة هي الأخرى غير منصفة، مثل سابقتها.
أفتخر أنني من أوائل الذين عارضوا قانون التقاعد السابق وربما الوحيد الذي فضل الاستقالة رافضا الاستفادة منه. في عام ٢٠٠٦ قدمت استقالتي من العمل في الدولة بعد أن شغلت عدة مناصب أولها الناطق باسم مجلس الحكم، والذي أصبح بدرجة وزير لاحقا، وفي الوقت نفسه كنت مديرا عاما للعلاقات العامة في مجلس الحكم ثم في مجلس الوزراء الذي حل محله، ثم مستشارا للثقافة والإعلام في مجلس الوزراء بدرجة، وكيل وزارة قبل أن يلغى تعييني في ظروف غامضة لم أتبينها حتى الآن. قدمت استقالتي مكرها بعد مضايقات قام بها (مسؤولون) لأسباب شخصية أو سياسية، لا أريد الخوض فيها في هذا المقال، لكنني لن أنساها ولن أسكت على الأضرار التي ترتبت عليها، هذا إن كان في العراق دولة قانون تعيد الحقوق إلى أصحابها وتردع المعتدي. أما إذا كانت تسمح للمسؤول أن يعمل وفق أهوائه ونزواته ومصالحه الشخصية، فلن يكون هناك عتب عليها لأنها عندئذ لا تختلف عن دولة صدام حسين التي فقد فيها العراقيون كل شيء.
لقد “شجعني” كثيرون على طلب الإحالة على التقاعد، سابقا ولاحقا، لكنني رفضت الأمر جملة وتفصيلا مكررا أن التقاعد يعني العجز عن العمل وأنا لا أشعر به حاليا.
قانون التقاعد الجديد ليس منصفا هو الآخر رغم أنه أفضل من السابق لأنه رفع الرواتب التقاعدية المتدنية حاليا إلى الضعف تقريبا. المادة ٣٧ تعطي تفضيلا للمسؤولين الكبار، وتستثنيهم من أحكام المادة ٢١، بينما أضيفت المادة ٣٨، بكل استثناءاتها وإلغاءاتها، إلى القانون في مجلس النواب ولم تكن ضمن القانون الذي أرسلته الحكومة إليه. أما المادة ٣٩ الخاصة بـ “الرموز الوطنية” فمن الممكن أن تستغل مستقبلا لمنح رواتب لمن تعتبره الأحزاب والكتل السياسية “رمزا وطنيا” وقد يدخل تحديد “الرموز الوطنية” ضمن التوافقات السياسية مما يعني أن عدد هؤلاء قابل للتمدد دون سقف أو حدود زمنية، رغم أن القانون اشترط تحديد معايير وآليات اختيار الرموز الوطنية بنظام.
لقد حدد القانون الراتب التقاعدي لمن خدم دون عشر سنوات بـ ١٥٠ ألف دينار، وهذا مبلغ زهيد في الوقت الحاضر إذ تحتاج أصغر عائلة إلى مليون دينار على الأقل كي تعيش بكرامة. كما حدد الحد الأدنى للراتب التقاعدي لمن خدم ١٥ عاما فما فوق بأربعمئة ألف دينار، وهذا المبلغ وإن كان أفضل كثيرا من السابق، إلا أنه لا يكفي لمعيشة أي عائلة حتى في القرى والمدن الصغيرة.
كان على مجلس النواب أن يشرَّع قانونا منصفا لمن عانوا من قسوة القوانين السابقة كي يشعروا لأول مرة أنهم مواطنون متساوو الحقوق والواجبات وأن هناك دولة ترعاهم عند الكبر والضعف ولا تميز بينهم، لكنه أخفق مرة أخرى فاهتم بالدرجات الوظيفية العليا على حساب الفقراء، وأحسب أن هذا القانون لن يرضي كثيرين وسيواجه معارضة هو الآخر.