مجلة الهدى: أصبحت مكافحة الفساد من المعضلات التي لم تتمكن الدولة العراقية حتى الآن من إيجاد حل لها. فرغم وجود العديد من الهيئات واللجان والمنظمات التي تراقب عمل مؤسسات الدولة فإن الفساد بقي مستشريا حتى تصدر العراق قائمة الدول الأكثر فسادا في العالم ولم يسبقه في ذلك سوى دول مثل الصومال وأفغانستان وبورما. لا شك أن الفساد مستشر في بلدان كثيرة في العالم، خصوصا في العالم الثالث، وهو في الحقيقة لا يمكن اجتثاثه كليا من أي دولة أو مجتمع أو مؤسسة، ولكن بالإمكان الحد منه بوسائل وطرق شتى، ومن الضروري أن تستخدم هذه الوسائل كلها معا كي تكون فعالة.
وقبل التحدث عن وسائل مكافحة الفساد يجب معرفة أسبابه الحقيقية. السبب الأول للفساد هو العوز فالموظف الفقير ذو الأجور المتدنية الذي لا يستطيع أن يفي بالتزاماته تجاه عائلته المباشرة في وقت ترتفع فيه أسعار ضروريات الحياة ارتفاعا سريعا، لا يجد أمامه حلا سوى تقاضي الرشوة. وعندما يبدأ بتقاضي الرشوة يعتاد عليها ويصيبه الجشع فيصبح محور حياته جمع المال عبر الرشاوى حتى بعد انتفاء حاجته إلى المال التي دفعته في البداية إلى هذا الانحدار الأخلاقي. لكن السبب الأول لدخول هذ المعترك يبقى العوز. لذلك فإن مكافحة الفساد تبدأ برفع الأجور والرواتب إلى مستوى يجعلها تكفي للعيش الكريم لأي عائلة كي لا يكون هناك مبرر للفساد غير الجشع.
هناك حاجة لإيجاد آلية لتقييم الأجور والرواتب بشكل مستمر كي نضمن أنها تجاري الأسعار وحاجات العائلة الأساسية، ومثل هذه الدراسات يجب أن تكون من أولويات وزارتي التخطيط والمالية. الأموال التي تهدر في الفساد حاليا تعد بمليارات الدولارات لذلك فإن زيادة الرواتب والأجور لموظفي القطاع العام ستكلف الدولة أقل بكثير من محاولة مكافحة الفساد عبر زيادة عدد الهيئات الرقابية والموظفين الذين يراقبون عمل داوئر الدولة.
الأمر الآخر الذي يجب النظر فيه من أجل معالجة الفساد هو الشفافية، فكلما كانت التعاملات الحكومية شفافة قل الفساد، وربما انحسر إلى مستويات دنيا لا يمكن أن نحلم بها الآن. عندما يجد المواطن أن من الصعب عليه أن يحصل على جواز سفر أو الجنسية أو شهادة الجنسية أو بطاقة السكن أو إجازة السوق أو أي وثيقة أو ترخيص، بل وحتى عند سعيه للحصول على وظيفة في الدولة، فإنه سيلجأ إلى دفع الرشوة للحصول على هذه الوثائق التي هي حق له.
لو كان الحصول على الوثائق يتم عبر طرق حديثة كأن تكون عبر الإنترنت، أو عبر تقديم المستمسكات في صناديق بريد معينة بحيث لا يكون هناك تماس بين المواطن والموظف، فسوف يتقلص الفساد في العملية إلى مستويات متدنية. منح العقود الحكومية للشركات هو الآخر يحتاج إلى شفافية أكثر كي يكون الفساد فيها في حدوده الدنيا، ولو كانت تلك العقود، خصوصا عقود تقديم الخدمات العامة كالكهرباء والماء وإنشاء شبكات الصرف الصحي والطرق والجسور وبناء المستشفيات والمدارس والجامعات والملاعب والمباني الحكومية وما إلى ذلك، شفافة وتتم بطريقة أصولية وعبر لجان متخصصة وفي العلن، لما حصل الفساد.
الأمر الآخر هو تمكين منظمات المجتمع المدني ومراكز الدراسات واستطلاع الرأي من العمل بحرية بحيث تتمكن من مراقبة عمل مؤسسات الدولة وكشف المتجاوزين والطرق التي يسلكونها أمام الرأي العام. والأهم من ذلك هو تعزيز حرية وسائل الإعلام وتمكينها من الحصول على المعلومة بحرية وعدالة كي تتمكن من كشف الفساد وإطلاع المواطنين على مجريات الأمور. إن كانت وسائل الإعلام الجادة تخشى كشف الفساد فإنها سوف تصمت وليس في هذا مصلحة لأحد سوى عصابات الفاسدين. ومن نافلة القول إن استقلال القضاء سيكون العامل الأهم في زعزعة أركان الفساد ثم هدمه كليا.
كثرة الهيئات والمؤسسات والمسؤولين والموظفين الذين يلاحقون الفساد لن تجدي نفعا إن بقيت أسبابه قائمة، وهي العوز ونقص الشفافية وضعف أداء وسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني ومؤسسة القضاء. معالجة الفساد تحتاج إلى خطط مدروسة ومجربة وطويلة الأمد، ويجب ألا نتوقع حلولا سحرية خلال فترة قصيرة. وفي الختام لابد من التأكيد على أن معالجة الأسباب بشكل جذري هو الطريق إلى القضاء على الفساد وعلينا ألا نبقى نكرر أن علينا مكافحة الفساد دون معالجة أسبابه.