“التأريخ سيكتب مواقفكم المشرفة بأحرف من نور. التأريخ سيسجل لكم مأثرتكم هذه. التأريخ لن يرحم أحدا وسوف يسجل تخاذلكم عن دعم أخوانكم. تأريخهم حافل بالخيانة. التأريخ يعيد نفسه. العالم معجب بتأريخنا المجيد الذي يمتد آلاف السنين. علينا ألا ننسى تأريخهم الأسود” وما إلى ذلك من العبارات المتعلقة بالتأريخ التي نسمعها كل يوم من العامة والمثقفين على حد سواء.
نحن قوم لا نهتم لشيء بقدر إهتمامنا بالتأريخ إلى درجة أن اهتمامنا هذا ينسينا حاضرنا ومستقبلنا وهنا يكمن الخطر الأكبر. ترى ما السبب في ذلك ولماذا يحكمنا التأريخ منذ مئات السنين؟ لماذا نعيش في التأريخ وننسى الحاضر والمستقبل؟ ولماذا يشكل التأريخ هاجسا لقادتنا، الكبار منهم والصغار؟ كثيرون منا يرفضون اتخاذ قرار قد يكون نافعا والسبب هو أنهم يخشون من التأريخ وما سيسجله عنهم. بل ترى حتى محللي الأحداث الحالية يأخذون التأريخ بنظر الاعتبار عند تحليلهم للأحداث المستقبلية رغم أن الحقيقة هي أن أحداث التأريخ لا تتكرر ولا تُستَنسَخ فلكل حدث أسبابه ومقوماته المختلفة. نعم بعض الأحداث في المجتمعات البدائية، مثل حوادث الثأر، تتكرر لأن طبائع الناس بقيت كما هي ولم تتغير لذلك تجد أنها تتكرر بشكل مماثل أو مقارب لما حصل سابقا.
ليس بإمكان جهة واحدة أن تستحوذ على تسجيل التأريخ، خصوصا في هذا الوقت الذي شهد تطورا هائلا في وسائل الاتصال والإعلام، لذلك فإن الحقيقة لا يمكن حجبها عن الاجيال مهما حاول البعض إخفاءها. في السابق كان ناقلو الأخبار قليلين ولا يمتلكون أدلة قاطعة على ما ينقلونه سوى ادعاءاتهم، لذلك برزت الحاجة إلى دراسة شخصية ناقل الخبر والتأكد من أنه ليس كذابا. مع ذلك فالقضية أعمق من شخصية الناقل، الذي قد يكون صادقا، لكنه قد لا يكون دقيقا في نقله للأحداث بسبب غياب الكفاءة والاختصاص. أما الآن فإن الوضع مختلف تماما، فالكاميرات متوفرة في كل بقعة من بقاع الأرض، ومعها متخصصون في نقل الأخبار وتغطية الأحداث، وليس ممكنا أن يفلت حدث معين من التوثيق بالصوت والصورة مرات عديدة وعلى أيدي وكالات ومؤسسات كثيرة.
كم أراد النظام السابق أن يُقنِع العالم أن إيران هي التي بدأت الحرب على العراق وكم طبَّل بأن بداية الحرب كانت في يوم ٤ أيلول ١٩٨٠. إلا أن العالم لم يقتنع بذلك، بمن فيهم حلفاء النظام وجنرالاته، وقد ثُبِّتتْ بداية الحرب في ٢٢ أيلول ١٩٨٠ وليس هناك الآن من يعتقد أنها بدأت في ٤ أيلول أو أن إيران هي التي بدأتها إلا قلة من المتعصبين أو المكابرين.
أتذكر في بداية الانتخابات الأمريكية لعام ١٩٨٨، كان محللون سياسيون أمريكيون يرددون أن المرشح جورج بوش (الأب)، الذي شغل منصب نائب الرئيس لثمانية اعوام في عهد الرئيس رونالد ريغان، ليس له حظ في الفوز بالرئاسة لأنه نادرا ما حصل في تأريخ الولايات المتحدة أن نائب الرئيس قد فاز في الانتخابات الرئاسية. لكن بوش فاجأ الجميع وفاز في الانتخابات وأصبح رئيسا للولايات المتحدة رغم انه لم يتمكن من الفوز في ولاية ثانية إذ هزمه الرئيس الجذاب بيل كلنتِن.
والسبب وراء عدم فوز نائب الرئيس في الانتخابات لا علاقة له بالتأريخ بقدر ما له علاقة بالتفكير السايكولوجي للناخب، فشخصية نائب الرئيس عادة ما تترسخ في أذهان الناخبين على مدى فترة شغله المنصب، وهي في العادة ثماني سنوات، على أنها شخصية الرجل الثاني المتسلم للأوامر وغير المؤثر في الأحداث وأنه يجب أن يرحل مع الرئيس المنصرف الذي لا يريدون استمراره ولا بقاء أي من أفراد طاقمه وفي مقدمتهم نائب الرئيس. لذلك فإن الناخب عادة ما يمتنع عن التصويت لنائب الرئيس، الشخصية الثانية الهامشية في العادة، ليجعل منها الشخصية الأولى. لكن هذه الظاهرة لا تتكرر إذا ما تغيرت الأسباب التي أوجدتها. وعندما كان المنافس الديمقراطي لبوش، مايكل دوكاكيس، ضعيفا، فاز بوش بالرئاسة خصوصا وأنه حظي بتأييد الرئيس المنصرف، رونالد ريغان، الممثل البارع الذي تمتع بشعبية واسعة أثناء فترة رئاسته.
ليس هناك مشكلة في دراسة التأريخ والتعلم منه وتجنب الأخطاء التي ارتكبت فيه، فهذا شيء جميل والتأريخ يشكل جزءا من الشخصية الوطنية للشعوب، لكن التركيز على التأريخ إلى درجة الهوس لا يخدم الحاضر ولا المستقبل. كثيرون منا لا يهتمون لشيء بقدر اهتمامهم بأحداث التاريخ حتى القديم منه. فتجدهم يبحثون فيه بدقة ويحللون كل حادثة فيه، صغيرة كانت أم كبيرة، ويحاولون تفسير الأحداث الحالية او المستقبلية في ضوء أحداث التأريخ وهذا في الواقع لا يخدم الحقيقة مطلقا وغالبا ما يقود إلى اتخاذ القرار الخاطئ وعادة ما يتسبب بإلحاق أضرار كبيرة بحياة الأشخاص ومن يتأثرون بقراراتهم…