الحياة ٢٩ نيسان ٢٠١٤
تعبر الانتخابات العراقية التي تجرى غداً الأهم حتى الآن والأسباب كثيرة ليس أقلها تطلع العراقيين الى حكومة قوية في المرحلة المقبلة تتمكن من القضاء على الإرهاب وتحقيق الأمن والنهوض بالاقتصاد الوطني الذي يترنح منذ سنوات بسبب تلكؤ الاستثمار في القطاع الخاص وتردد الشركات العالمية في القدوم إلى العراق بسبب تردي مؤشرات الشفافية والنزاهة والكفاءة.
معظم الأحزاب المشاركة في الانتخابات تتوقع تغييراً من نوع ما. السيد نوري المالكي وحلفاؤه في قائمة «دولة القانون» يتوقعون فوزاً يعطيهم غالبية سياسية في البرلمان ويمكِّنهم من تشكيل الحكومة للمرة الثالثة. لكن خصومهم، وهم كثيرون، من كتلتي «المجلس الأعلى الاسلامي» بقيادة السيد عمار الحكيم و «الأحرار» (التيار الصدري) في الجانب الشيعي، إلى كتلتي «متحدون» و «العربية» في الجانب السنّي إلى «التحالف الكردستاني» و «القائمة الوطنية» بقيادة أياد علاوي، إلى التيارات المستقلة الأخرى، يأملون أيضاً أن يكسبوا عدداً أكبر من المقاعد يمكِّنهم من تشكيل تحالف قادر على حرمان رئيس الوزراء نوري المالكي من الولاية الثالثة التي تسعى إليها قائمته بقوة.
فإن تمكن الخصوم فعلاً من تشكيل تحالف متماسك مستقبلاً، فإنهم سيعوقون تشكيل المالكي الحكومة المقبلة، خصوصاً أن المؤشرات الأولية لنتائج الانتخابات تستبعد أن يحصل المالكي على العدد المطلوب من المقاعد لتشكيل حكومة غالبية سياسية، وهو ١٦٥ مقعداً، كما صرح بذلك بعض حلفائه، مع ذلك لا يمكن استبعاد المفاجآت الانتخابية كلياً في أي دولة ديموقراطية والتي يمكن أن تربك حسابات الجميع.
الاختلافات بين الكتل السياسية لها أول وليس لها آخر، وهي تمتد من الخلاف على توزيع الثروة النفطية وصلاحيات المركز والأقاليم والمحافظات، إلى الخلاف حول الدستور وإمكانية إنشاء الأقاليم، المتاحة دستورياً والمتوقفة عملياً بسبب الخلافات السياسية، إلى الخلاف حول قانون المساءلة والعدالة والمادة ٤ إرهاب ومقاتلة الجماعات المسلحة، إلى الخلاف على توزيع المناصب العليا في الدولة التي تُشغل حالياً بالوكالة، إلى الخلاف حول توزيع «عادل» للوظائف والمناصب العسكرية والأمنية والمدنية يرضي جميع الكتل والمكونات.
أولويات القوائم الانتخابية مختلفة هي الأخرى، فقائمة دولة القانون وتفرعاتها تضع مسألة تشكيل حكومة الغالبية السياسية في قمة أولوياتها، إذ ترى أن العراق بحاجة إلى حكومة قوية تتمتع بشرعية برلمانية مريحة كي تتمكن من النهوض بالعراق والتغلب على الأخطار التي تواجهه حالياً. بينما ترى القوائم الأخرى أن الأولوية يجب أن تكون لمنع هيمنة كتلة بعينها على الحكومة لفترة طويلة والتي يعتقدون أنها ستأتي بديكتاتورية جيدة، والمقصود هنا هو كتلة دولة القانون التي تهيمن على الحكومة حالياً وتأمل الاستمرار في ذلك.
أما قائمة «العربية» بقيادة نائب رئيس الوزراء صالح المطلك، فقد وضعت تعديل الدستور ضمن أولوياتها، على رغم إدراكها أن ذلك لن يكون ممكناً بل هو المعضلة الكبرى التي تواجه العراق في المستقبل المنظور، خصوصاً مع وجود مادة في الدستور تنص على أن أي تعديل دستوري «يجب ألا يعارضه ثلثا الناخبين في ثلاث محافظات أو أكثر»، وهذا الشرط الذي وضعه الجانب الكردي، لا يمكن تحقيقه إلا باتفاق الفرقاء السياسيين جميعاً، وهذا لن يحصل لأن الأكراد لن يتنازلوا عن هذه المادة من دون ثمن لأنها تمنحهم حق النقض ضد أي تعديل دستوري يمكن أن يضعف موقعهم في العراق. لقد صيغ الدستور الحالي بطريقة ترضي جميع الفرقاء وتتيح لهم أن يفسروه وفق مصالحهم وقد تسبب ذلك في خلافات كثيرة وكبيرة بين الكتل السياسية اضطرتها إلى اللجوء إلى المحكمة الاتحادية لتفسير المواد الدستورية لمصلحة طرف ضد آخر.
إذاً، الجميع يعوّل على الانتخابات لإيجاد الحلول التي يبحثـون عنها للمعضلات العراقية، كل من زاويته الخاصة. لكن، هل ستقدم الانتخابات حقـاً حـلولاً جدية للمشكلة العراقية؟
لا يبدو الأمر هكذا، خصوصاً مع عدم احتمال فوز أي طرف بالعدد الكافي من المقاعد لتشكيل حكومة غالبية سياسية. النظام الانتخابي الجديد (سان ليغو المعدل) شجَّع الكتل الكبرى على التشظي، وهذا التشظي وإن كان ذا أهداف انتخابية، إلا أن له جذوراً حقـيـقـيـة وقـد أخـفــتـها التـحالفـات سابقاً، وقــد تـتـضح الخـلافــات الحقـيـــقية بـــيــن المكونات السيـاسيــة المختـلفة، المبـنـيـة عـلى طموحــات سياسية وشخصيـة متعارضة، بعد الانتخابات.
ستتجه أنظار الفائزين الصغار نحو الفائز الأكبر من أجل الالتفاف حوله والحصول على مواقع مؤثرة في الحكومة المقبلة، لكن امتناع الكتل الكبيرة الفائزة عن التحالف مع الكتلة الأكثر عدداً، إذا ما حصل، سيضع العملية السياسية في مهب الريح ويجعل من عملية تشكيل الحكومة معضلة غير قابلة للحل، ما يفتح الطريق امام الدول (الصديقة) للتدخل لحل الأزمة.
الخلافات العميقة بين الكتل السياسية ستعقِّد عملية تشكيل الحكومة المقبلة وتعوق التوصل إلى حل توافقي بين الفرقاء، ما يطيل بقاء الحكومة الحالية لتصريف شؤون الدولة. ولا ننسى أن تشكيل الحكومة بعد انتخابات عام ٢٠١٠ قد استغرق عشرة أشهر.
لكن، لا سبيل لحل المشكلة غير التوافق والذي لا يتطلب هذه المرة إرضاء جميع الكتل السياسية الممثلة في البرلمان، كما حصل في السابق، بل الكتل المنسجمة القادرة على العمل معاً في حكومة يأمل كثيرون أن تكون متماسكة وتعمل بتناغم كي لا يحصل التناحر الذي شهدته الأعوام الثمانية الماضية. الرئيس المالكي يرى أن حكومة الغالبية السياسية يجب أن تضم «كل المكونات» ولكن ليس كل الكتل السياسية.
غياب الرئيس جلال طالباني عن المشهد سيمكِّن نائب الرئيس وحليف المالكي، خضير الخزاعي، من دعوة البرلمان إلى الانعقاد في الوقت المناسب، وسيعطي ذلك المالكي ورقة إضافية ضد خصومه السياسيين، سيلجأ إليها إن لم يتمكن من التوصل إلى حلول توافقية معهم. المشهد السياسي العراقي هذه المرة معقّد للغاية، لكنه سيضطر الفرقاء السياسيين إلى التخلي عن تحقيق الأحلام والطموحات الكبيرة التي تحملها مخيلاتهم، أو تأجيلها على الأقل، وتقديم تنازلات مهمة من أجل البقاء في العملية السياسية. باختصار، هذه الانتخابات ستجبر كثيرين على التحلّي بالبراغماتية ومغادرة القصور العاجية التي يسكنونها منذ زمن.
http://alhayat.com/Opinion/Writers/2042260/انتخابات-العراق-إذ-تحطم-القصور-العاجية-للسياسيين