قمت أثناء زيارتي الأخيرة إلى لندن بزيارة المعماري العراقي الشهير الدكتور محمد مكية في منزله وسط العاصمة البريطانية. وكان الدكتور مكية قد احتفل في وقت مبكر من العام بعيد ميلاده المئة وتسلم بطاقة تهنئة من ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية التي اعتادت إرسال بطاقة تهنئة لكل شخص تجاوز المئة في بريطانيا.
ما تزال صحته جيدة رغم أن استحقاقات العمر واضحة عليه لكن فكره وذهنه ما زالا متوقدين ومثيرين للإعجاب. كنت أتوقع أنه لن يتذكرني لأنني لم أره منذ أن زرته في المستشفى عام 2006 لكنه تذكر وسألني عن مدينة الديوانية وطلب أن أزوده بصور لمبانيها القديمة. لم يشْكُ الدكتور مكية من أي شيء شخصي مطلقا خلال وجودي معه بل كان حديثه منصبا على العراق ومدنه وشوارعه وثقافته وتأريخه وحضاراته القديمة.
قال لي إن عليكم أن تهتموا بالمدن العراقية والعمارة وألا تشيدوا المباني دون تخطيط، وأن تحدوا من حركة السيارات في المدن وتغلقوا العديد من مراكز المدن بوجه السيارات وتستعيضوا عنها بالمواصلات العامة من حافلات وقطارات وغيرها. ثم قال إياكم وهدم المباني القديمة لأنها أثرية ولها علاقة بهوية كل مدينة. بإمكانكم ترميمها كي تبقى شاهدة على هوية العراق وتأريخه ولكن لا يجوز بأي حال من الأحوال هدم المباني التاريخية.
تحدث كثيرا عن الهوية العراقية التي قال إن علينا أن نعززها ثم أخذ يشرح لي عن تأريخ العراق والحضارات التي أقيمت فيه وكيف أنه متميز عن باقي بلدان العالم. قال لي إن كل بيت في مدينة النجف هو متحف قائم بذاته ويجب الاهتمام بالأحياء القديمة والحفاظ على طابعها المعماري الأصيل. طالبني بأن أجلب له في زيارتي المقبلة صورا من أحياء بغداد القديمة وخصوصا منطقته (صبابيغ الآل).
كنت قد أخذت بعض الصور لبعض المباني البغدادية القديمة في هاتفي المحمول ففتحته وأطلعته عليها ففرح فرحا شديدا. ثم أخذ يتحدث عن تجربته في العمارة في بغداد ويسألني عن حال مناطق بغداد المختلفة وكيف أصبحت الآن… لم أزعجه بإطلاعه عن حال بغداد الآن وكيف أن السيارات المفخخة تنفجر فيها لتحرق الأخضر واليابس وتقتل الناس وتهدم المباني وكيف أن الأرصفة أصبحت محلات لبيع البضائع أو مواقف للسيارات حرصا مني على راحته.
الدكتور مكية له فضل على العراقيين جميعا من خلال أعماله العمرانية والثقافية في العراق وخارجه. في العراق صمم العديد من المباني والمساجد المهمة في بغداد، وكاد مشروعه الرائد، جامعة الكوفة، سيحقق نقلة نوعية في مجال الثقافة والتعليم لكن النظام السابق أوقفه لأسباب سياسية.
وفي بريطانيا مثلا خصص الدكتور مكية مبنى يمتلكه في مركز المدينة السياحي للقاءات الثقافية العراقية وكان العراقيون يلتقون فيه أسبوعيا على الأقل وسماه (ديوان الكوفة) وكنا نلتقي فيه باستمرار لسماع محاضرات في شتى صنوف المعرفة والثقافة والفن أو نحضر معارض فنية تقام فيه.
أتذكر أنني أجريت معه لقاء صحفيا لهيئة الإذاعة البريطانية عام 1999 أو ربما عام 2000 تحدث فيه عن أمنياته بزوال الدكتاتورية وحصول العراقيين على حريتهم. قال لي حينئذ: أنا رجل في الثمانين لم يبقَ لي إلا القليل والأمل بالأجيال الناشئة في إقامة عراق عصري يتسع لكل أبنائه. ها قد مرت السنون وأمد الله بعمر الدكتور مكية ليتجاوز المئة ومازال حلمه ببلد عصري ينعم فيه أهله بالرخاء والسعادة قائما رغم زوال الدكتاتورية.
مشاعر الدكتور مكية الجياشة تجاه العراق لا توصف… لم يتحدث عن أي شيء آخر غير العراق وبغداد وكيف يمكن أن تكون أفضل. كان مليئا بالأمل ومتفائلا وكأنه شاب عشريني أو ثلاثيني. ما أحوجنا الآن لأن نتعلم من سيرة حياة هذا الرجل المليئة بالإنجازات.
لقد كُتِبت عنه كتبٌ عديدة أهمها ثلاثة هي كتاب الدكتور حسين الهنداوي وكتاب الأستاذ خالد السلطاني اللذان سردا بتفاصيل جميلة محطات حياة هذ الرجل العملاق. وهناك أيضا كتاب “خواطر السنين: سيرة معماري ويوميات محلة بغدادية” الذي حرره الدكتور رشيد الخيون ونشرته دار الساقي وهو كتاب مهم أيضا يشرح تفاصيل حياة الدكتور مكية في بغداد.