مجلة الهدى- كانون الأول ٢٠١٤
يتوهم بعض السياسيين أنهم بمجرد ظهورهم المتكرر في وسائل الإعلام سيتحولون إلى رموز وطنية وقادة عظام، إنهم ينسون أن المهم ليس الظهور الإعلامي ومدى تكراره بل ما يقوله المسؤول أو السياسي أو الخبير ومدى أهميته وجدته وعلاقته بالناس وهمومهم ومصالحهم. الظهور المتكرر في وسائل الإعلام دون أن تكون هناك مادة جديدة ومهمة يضر بأصحابه ويقلل من أهميتهم ويبرز أخطاءهم ويجعل الناس لا يكترثون لما يقولونه مستقبلا لأنهم سمعوه وسئموه.
أحد السياسيين البارزين يظهر في وسائل إعلام كثيرة يوميا على شكل مقابلات طويلة ويرسل روابط تلك المقابلات إلى الآخرين. لقد ساهمت تلك المقابلات في نشر أفكاره في البداية لكن المشكلة أنه بدأ منذ فترة يكرر الأفكار عينها حتى ما عاد هناك فرق بين مقابلاته مع هذه القناة أو تلك.
والخطر هنا يكمن في أن هذا السياسي يهمش نفسه من حيث يسعى لأن يكون دائما في مركز الأحداث، لأن الناس لن يشاهدوا مقابلاته وأفكاره المكررة فالوقت لم يعد متاحا بالقدر الذي يتصوره. وقد تكون لديه أفكار أو قرارات أو سياسات مهمة مستقبلا لكنه لن يجد من يهتم لها بسبب عدم ثقة الناس أو وسائل الإعلام بأن ما يقوله جديد.
سياسي آخر يحرص على الظهور في التلفزيون إلى درجة أنه يلغي اجتماعات مهمة بل وحتى لقاءات إعلامية مرتبة مسبقا مع وسائل إعلام أخرى يعتبرها “أقل أهمية” ليلبي طلبات وسائل إعلام أخرى أكثر انتشارا وأهمية حسب رأيه، وعادة ما يكون ذلك على حساب صدقيته.
ورغم الإشكالية الكبيرة في مخالفة الوعود التي يقطعها المسؤول أو السياسي أو الخبير على نفسه مع وسائل الإعلام والتي تضر بسمعته وسط الأسرة الإعلامية لأنها لن تتعاون معه مستقبلا ولن تلبي له طلبا إن تكررت مخالفاته للمواعيد المتفق عليها معه، فإن عدم أهمية ما يقوله وإيغاله في التركيز على العموميات سوف يهشم صورته أمام الرأي العام ويقلص من أهميته تدريجيا وطالما رأينا سياسيين أو خبراء أو مسؤولين انتهوا سياسيا أو مهنيا بسبب سعيهم الحثيث وراء البروز الإعلامي الذي يدمر الشخصيات أكثر مما يصنعها. الحريصون على سمعتهم ومهنيتهم وصدقيتهم لا يخرجون إلى وسائل الإعلام إلا إذا كان لديهم جديدٌ ومهم، نعم، جديد ومهم في آن.
العموميات لا تنفع المتلقين ولا تهتم لها وسائل الإعلام الجادة، رغم أننا نشاهد الكثير منها تملأ شاشات التلفزيون ونشرات الأخبار وصفحات الجرائد هذه الأيام دون أن يمحص ناقلوها المهم من الآراء والأخبار والتصريحات من غيره.
ما زال بعض وسائل إعلامنا ينقل جوانب ثانوية من الأخبار ويترك المهمة منها فتجده يركز على الاستقبال في المطارات ومن الذي كان في استقبال المسؤول الزائر أو ينقل تصريحات مثل (بحثنا العلاقات الثنائية بين البلدين وسبل تطويرها) أو (وقد بحث الطرفان القضايا ذات الاهتمام المشترك)! ولا ندري ما الجديد في هذا وهل هناك أحد لا يعلم مثل هذه البديهيات وهل من المعقول أن يبحث مسؤول دولي أمورا ليست من اهتمام بلده؟
صحيح أن العيب في المسؤول أو السياسي الذي لا يُطْلع وسائل الإعلام ولا جمهوره على القضايا المهمة التي بحثها ولكن العيب الأكبر هو في وسائل الإعلام التي تقبل بنقل مثل هذه التصريحات ولا تصر على الحصول على معلومات دقيقة.
والغريب أنك تجد بعض (الخبراء) أو (المتخصصين) يشترك في برامج حوارية وليس لديه أي شيء غير العموميات مثل (كل هذه الأمور تحل عبر الحوار)!!! أحد (خبراء القانون) جيء به إلى قناة فضائية ليبدي رأيا مهنيا لكنه ظل يردد فكرة (الحوار والتوافق) دون أن يقول رأيه المهني في الموضوع ويترك الحوار والتوافق للسياسيين.
أحد (الخبراء) الاقتصادين بدأ يتحف سامعيه ومشاهديه بأهمية العراق الاقتصادية (لأنه يمتلك نهرين وأرضا خصبة ومناخا معتدلا ومحاط بدول كبيرة كإيران وتركيا وسوريا والسعودية)! وكأن هذه المعلومات غير متوفرة للناس ولا يدرسها تلاميذ المدارس الابتدائية. وجود مثل هؤلاء (الخبراء) المهمِلين لن ينفع أحدا ويجب تحذيرهم وحتى فضح جهلهم أمام الرأي العام كي يجتهدوا ويأتوا بالجديد بدلا من تكرار المعلومات السياحية التي يعرفها التلاميذ الصغار.
بإمكان وسائل الإعلام المحترمة أن تعوِّد المسؤولين والسياسيين والخبراء على تقديم المعلومات الجديدة والدقيقة ولا تقبل بالسائد والمألوف منها، بل عليها أن تغذي عندهم الميول العلمية والحوارات الجادة وتهمل الكلام المكرور الذي يعرفه العامة والخاصة على حد سواء. هناك حاجة ماسة فعلا لأن يطلع الناس على ما يجري عبر تلقي معلومات جديدة ومعمقة من خبراء حقيقيين، بدلا من تكرار الكلام المألوف والمفردات التي سئمها الناس وأصبحت تثير فيهم اليأس واللامبالاة والميل للاعتقاد بنظرية المؤامرة بل وتجعلهم يعزفون عن متابعة الأحداث والتحليلات. إنها مسؤولية تحتاج إلى من يتحملها من الإعلاميين المهنيين. أما الذين وجدوا أنفسهم فجأة في مواقع إعلامية غير مؤهلين لشغلها فلن نتوقع منهم غير المألوف والمكرور…