قد نكون نحن الذين عشنا زمنين، زمن الجرائد الورقية ووكالات الأنباء والمكالمات الهاتفية عبر الخطوط الأرضية والصور الثابتة وزمن الإنترنت والفضائيات والهواتف المحمولة والفيسبوك وتويِتر واليوتيوب والإيميل محظوظين لأننا نستطيع أن نقدر النعمة التي نحن فيها حاليا مقارنة مع الصعوبات الجمة التي كنا نعانيها سابقا في الوصول إلى المعلومة، خصوصا نحن الذين عملنا في مجال الإعلام والأبحاث. كان كثيرون منا أسرى لمعلومات يأتيهم بها (عمالقة الإعلام) الذين كان معظمهم تابعا لـ (عمالقة) السياسة العربية وهم بدورهم لم يكونوا عمالقة إلا على الضعفاء من أبناء شعوبهم المغلوب على أمرهم.
مع ذلك، هناك مزايا لذلك الزمن لا يمكن إغفالها الآن وهي السعي نحو إتقان العمل، ورغم الصعوبات الكثيرة التي تعترض عمل المرء في ذلك الزمن، فقد كان الصحفيون والكتاب يبذلون جهودا كبيرة من أجل أن يتقنوا معلوماتهم وتقاريرهم ومقالاتهم وكتبهم. في هذا العصر قلَّ مثل هذا السعي للأسف الشديد ويفترض بالصحفيين الجدد أن يهتموا أكثر ويبدعوا في تقديم الأفضل لأن المعلومة متوفرة لديهم فأينما يولوا يجدونها أمام أعينهم.
تصوروا كيف كان المحرر يبذل جهدا في تحرير الأخبار والمقالات التي كانت تكتب باليد وترسل بالبريد العادي وتستغرق وقتا للوصول وتستغرق وقتا لفك رموزها لمن اعتادوا ممارسة الكتابة المسمارية ثم وقتا لتحريرها وطباعتها! ومن أصعب الأمور كان الحصول على الصور، الحديثة منها والقديمة، إن لم تكن موجودة ضمن أرشيف الجريدة أو المجلة وغير موجودة في الوكالات التي تشترك بها وسيلة الإعلام التي يعمل بها الصحفي المعني.
شاهد هذا الكلام هو أننا نرى الآن تقارير غير مكتملة وأخبارا غير متقنة وصورا غير لائقة أو مناسبة ونرى (خبراء) في كل الاتجاهات يجوبون الفضائيات والإذاعات والمواقع وكثيرون منهم لا يتقنون أي شيء، وكتابا يكتبون في كل شيء حتى في المجالات التي لم يطرقوا أبوابها يوما. لماذا يا جماعة؟ أليس اتقان العمل ضرورة مهنية واحتراما للنفس والآخرين؟ ألا يريد المرء أن يكون متميزا في عمله؟ ألا يريد أن يُشار إليه بأنه مهني؟
ليس هناك شيء مفيد وجميل يأتي دون جهد، ولو كان هذا ممكنا لما اضطر المتميزون إلى بذل الجهد وسهر الليالي. هل إن كثرة وسائل الإعلام والفضائيات والإذاعات والجرائد والمواقع الالكترونية جعلت بعضهم يجد من يتلقى منه الأخبار والمساهمات والآراء دون أن يكون متقنا لمعلوماته ومهنته؟ هل هذه الكثرة هي التي جعلت لدينا مئات بل آلاف الخبراء في شتى المجالات؟ فما عليك هذه الأيام إلا أن تدعي أنك خبير أو محلل في الأمن أو الاقتصاد أو الإعلام، الذي أصبح مهنة من لا مهنة له، وسوف تُعطى هذه الصفة دون تردد أو تمحيص.
أحدهم يدعي بكل صفاقة إنه دكتور في الاقتصاد وأستاذ في الإعلام في الجامعة الفلانية وهو لم يكمل تعليمه الثانوي ولم تسمع به تلك الجامعة لكنه مع ذلك يجد من يستضيفه في وسائل الإعلام (المرموقة) ويأخذ رأيه ويقدمه بالصفة التي يدعيها. آخر يدخل كلمات إنجليزية مغلوطة في تعابيره كي يوهم الناس بأن ثقافته إنجليزية بينما هو يعرف قبل غيره أنه جاهل باللغة والثقافة الإنجليزيتين.
قبل أيام قرأت مقالا لأحدهم وكان في مجال لا يفقه فيه شيئا لكن مشكلته أنه يكتب يوميا لذلك فهو مضطر لأن يكتب أي شيء وفي أي موضوع بينما الجرائد تنشر دون تمحيص خصوصا إن كان الكاتب مسؤولا… ربما يتوهم أن الناس تنتظر مقالاته بفارغ الصبر وأن فراغا هائلا سيحدث في اليوم الذي لا يكتب فيه لدى (الملايين) من قرائه! ولا أدري إن كان أمثاله مؤمنين حقا بقدراتهم أم أنهم يحاولون خداع الآخرين والمشكلة قائمة في كلتا الحالتين.
بعضهم (يلطش) أفكارا وتقارير ومقاطع من آخرين وينسبها لنفسه وينسى أن كل شيء موثق هذه الأيام وأن السرقة لا يمكن إخفاؤها مطلقا فبمجرد وضع مقطع من القطعة المسروقة في (غوغل) أو (ياهو) فستدلك أين نشر أول مرة ومتى ومن هو الكاتب والجهة الناشرة. يتناسى البعض أن حبل الكذب قصير وإن لا شيء جميلا أو مفيدا يرتجى من الدجل والانتحال و(من يدعي ما ليس فيه كذبته شواهد الامتحان).
مثل هذه الأفعال الشائنة إن أقدم عليها المرء مرة واحدة فإنها تبقى وصمة عار تلاحقه طول عمره حتى وإن أصبح مهنيا بعد حين واتقن عمله واكتسب مهارات جديدة لذلك لا فائدة ترتجى من الإقدام عليها. أخيرا، هذه الأشياء الكثيرة الحدوث في بلداننا، لم أسمع يوما أنها حصلت في البلدان المتقدمة التي منَّ الله عليها بكثرة المهنيين والمتقنين أعمالهم.