الحياة- ١٧ شباط ٢٠١٥
يتوهم البعض عندما يظن أن المصالحة تعني تصالح القوى السياسية مع بعضها، فهذا لا يحصل حتى في أرقى الدول الديموقراطية. المتنافسون السياسيون يستمرون في مهاجمة و(تعرية) بعضهم البعض وإبراز أخطاء و(مساوئ) بعضهم البعض في كل الأوقات وتحت كل الظروف بل هم يسعون لتمييز أنفسهم وسياساتهم عبر إبراز الخلافات أمام الرأي العام حتى وإن كانت غير عميقة.
بينما المصالحة تحصل بين أبناء المجتمع الذي عانى من أزمات في العلاقات بين مكوناته الاجتماعية أو العرقية أو الدينية وحتى الطبقية خلال تاريخه الحديث وهي تعني إنهاء حالة العداء والعنف وانعدام الثقة بين فرقاء في المجتمع والانتقال بالجميع إلى مجتمع جديد قائم على الوئام والتفاهم وفق قوانين وأسس جديدة. وأول هذه القوانين وأهمها هو العفو عن التجاوزات التي حصلت بسبب طبيعة النظام السائد سابقاً الذي تسبب في بروز ظاهرة العداء، وليس عن الجرائم العادية التي تعالجها قوانين العقوبات السائدة في أي بلد وفي ظل أي نظام.
المصالحة تعني التضحية بالحقوق والعفو عن المتجاوزين الذين اضطرتهم الظروف السائدة في النظام السابق، وربما كانت مفروضة عليهم وعلى غيرهم، إلى ارتكاب أعمال غير لائقة إنسانياً، لكنها ربما كانت مقبولة وفق قوانين وأعراف الفترة السابقة. هؤلاء الذين يطالبون بالثأر و»إقامة العدل» إنما هم لا يعرفون معنى المصالحة الوطنية ولا يفهمون طبيعة المجتمع العصري بل يفكرون بطريقة بدوية ويتوهمون أن المتجاوزين السابقين فقط هم المستفيدون منها، بينما الحقيقة هي أن المجتمع ككل سيستفيد خصوصاً المتجاوَز عليهم لأن الاستقرار والقبول الدولي والتقدم الاقتصادي، التي ستنتج عن المصالحة والتوافق الاجتماعي هي في مصلحة المجتمع العراقي والدولي.
وتُعَد جنوب أفريقيا الآن من الدول المتقدمة علمياً والصاعدة في مقياس التقدم الاجتماعي والاقتصادي وأحد أهم أسباب هذا التقدم هو المصالحة التي تمكن قادتها من تحقيقها عبر الصفح عن المتجاوزين إبان نظام الفصل العنصري السابق. لو كان الأفارقة قد أصروا على «إحقاق الحق» أو «إقامة العدل» الذي يطالب به البعض في العراق هذه الأيام بوعي أو من دونه، لبقي الجميع يتحاربون حتى الآن وأصبحت جنوب أفريقيا من البلدان المدمرة اقتصادياً واجتماعياً ويسعى أهلها لطلب اللجوء في البلدان الأخرى. لكن المصالحة أنقذتها من ظلم النفس الذي يتورط به البعض أحياناً وها هي الأكثرية الأفريقية تنعم بخير المصالحة وهي المستفيدة الأولى منها وليس فقط القلة من البيض الذين شملهم العفو والذين كان بمقدورهم أن يغادروا البلد إلى بلدان أخرى في أوروبا وأميركا وأستراليا. لكنهم بقوا في بلدهم واستثمروا أموالهم وخبراتهم فيه وطوروه ليكون بلداً آمناً متقدماً ينعم فيه الجميع بالخير والرفاهية.
في العراق هناك من يسعى لتعميق الهوة بين أبناء المجتمع متوهماً أنه بذلك ينفع طائفته أو قوميته، أو ربما يحقق بطولة طائفية أو قومية متخيلة، بينما البطولة الحقيقية هي في القدرة على الصفح والتجاوز عما حصل في الماضي من أجل المستقبل. كل بناة الدول مارسوا المصالحة التي تعني العفو والتضحية ومغادرة الماضي. الأحزاب الإسلامية تدعي أنها تطبق الإسلام وفي هذا عليها أن تقلد النبي محمد الذي عفا عمن آذوه بمن فيهم قاتل عمه الحمزة الذي أطلق سراحه بعد فتح مكة ومعه كل من عادوه وحاربوه بمن فيهم زعيم قريش، أبو سفيان. أتذكر أنني حضرت عام ١٩٨٧ محاضرة للبروفيسور يعقوب زكي (وهو بريطاني اعتنق الإسلام واسمه الأصلي جيمز دكي) وقد قال فيها من جملة ما قاله إنه أصبح مسلماً بعد أن قرأ قصة عفو النبي محمد عن قاتل الحمزة («وحشي») وإن تلك الحادثة مثلت بالنسبة له دليلاً قاطعاً على نبوة محمد.
المصالحة موجودة في الإرث العربي والإسلامي وإن كانت النزعة نحو الثأر أقوى في مجتمعاتنا ولكن بإمكان القادة أن ينمّوا نزعة التسامح بين الناس ويروجوا لأفكار التصالح والوئام والتعايش إن كانوا حقاً يريدون مصلحة البلاد ويسعون إلى تمثيل المكونات التي ينتمون إليها تمثيلاً حقيقياً. نعم طريق المصالحة ليس معبداً بالورود بل هو صعب وقد يكون وعراً من الناحية السياسية ولكن لا بديل عنه إن كان القادة السياسيون يسعون حقاً إلى بناء مجتمع حديث متطور ومتفاعل إيجابياً ومتسامح وملتزم بالقانون.
قادة الأزمات والحروب لا يصلحون لمرحلة المصالحة إلا إذا غيروا جذرياً من أفكارهم وأساليبهم وقد يكون ذلك صعباً على بعضهم. المصالحة في جنوب أفريقيا لم تتحقق إلا بعد أن غادر بي دبليو بوثا المسرح السياسي وتولى خلفه أف دبليو دكليرك القيادة. والحال نفسها في أيرلندا الشمالية عندما تنحى الزعيم البروتستانتي المتشدد إيان بيزلي عن القيادة لجيل جديد يريد أن يمضي في طريق الحياة والتقدم. ونستون تشرشل الذي قاد بريطانيا نحو النصر في الحرب العالمية الثانية فشل في انتخابات ما بعد الحرب لأن الشعب البريطاني أراد قيادة جديدة تبني ما دمرته الحرب وأدرك أن الذي انتصر في الحرب ربما لا يصلح لأن ينتصر في معركة السلام والبناء.
هناك الآن فرصة في العراق بوجود قادة جدد غير مكبلين بأعباء وقيود الماضي وهؤلاء قادرون، إن توفرت الإرادة، على تجاوز تبعات الماضي، الثقيلة دون شك، ولكن هذا يحتاج حقاً إلى حزم وشجاعة استثنائيين وقدرة على العفو والتصالح. عليهم أن يدركوا جيداً أن لا مصالحة وطنية حقيقية يمكن أن تتحقق مع وجود قانون اجتثاث البعث، مهما تغيرت مسمياته، والسبب هو أن هذا القانون يستثني شريحة كبيرة من المجتمع من التفاعل الإيجابي مع باقي الشرائح وهو، وإن كان يضمن بعض الحقوق للبعثيين السابقين، إلا أنه يؤذيهم وأهلهم معنوياً ويحمّلهم جميعاً جرائم النظام السابق بينما هناك غيرهم ممن ارتكب هذه الجرائم وقد عوقب عليها ونال جزاءه.
المصالحة في العراق ضرورة لبقائه كدولة حديثة متماسكة، لكن نجاحها مرهون بقدرة القادة السياسيين على التوصل إلى صيغة ترضي الجميع وتقنعهم بالعمل معاً لإصلاح علاقات المكونات العراقية التي أفسدتها الدكتاتورية وممارساتها والحروب التي تسببت فيها. ما تزال هناك أرضية للمصالحة وهذه الأرضية تشكل قاعدة للانطلاق نحو المستقبل.
http://alhayat.com/Opinion/Writers/7464108/المصالحة-الوطنية-تصلح-ما-أفسدته-الدكتاتورية