الحياة: ٧ آذار ٢٠١٥
ما جرى ويجري في القضاء العراقي خلال السنوات الأخيرة أضر كثيراً بصدقيته وزعزع ثقةالعراقيين والعالم به، وهو إن استمر على هذهالشاكلة، فإن وضع العراق لا يبشر بخير. خلال السنوات الماضية، كانت المحاكم العراقية تدين شخصاً بالفساد أو الإرهاب لكنها تبرئه بعد فترة من الزمن، ربما بعد إبرام صفقة من نوع ما، وهي في أكثر الأحيان سياسية، أو بعد تغير الحكومة وزوال المؤثرات التي قادت إلى الإدانة. لقد حصل هذا كثيراً خلال السنوات الماضية وكلنا أمل أن يتوقف مستقبلاً
من الذين دينوا بالإرهاب وهربوا من العراق عام ٢٠٠٦ السياسي مشعان الجبوري الذي كان معادياً ليس للمالكي فحسب بل ربما للنظام السياسي كله، وكان ذلك واضحاً من البرامج والأفكار التي كانت تعرض في قناته الفضائية التي أبدل اسمها عدة مرات بعد إغلاقها بسبب ما تبثه من مواد مخالفة للقانون وتحرض على العنف والكراهية. بل إنه بدأ مشاركته في برنامج «الإتجاه المعاكس» بقراءة سورة الفاتحة على روح الدكتاتور السابق صدام حسين الذي أعدم أواخر عام ٢٠٠٦، علماً أن نظام صدام لاحقه وأعدم عدداً من أصهاره وأقاربه واضطره للعيش في المنفى عقداً ونصف العقد تقريباً.
وعلى رغم كل هذا عاد الجبوري في أواخر عهد المالكي وفق صفقة سياسية على ما يبدو، فبرأته المحكمة التي دانته سابقاً، ليستأنف نشاطه السياسي مرة أخرى ويصبح عضواً في البرلمان العراقي يمارس نشاطاً سياسياً مختلفاً (وأكثر اعتدالاً) من السابق.
وزير الاتصالات السابق، محمد توفيق علاوي، وهو رجل أعمال عراقي وينتمي إلى عائلة بغدادية ثرية، استقال من منصبه احتجاجاً على تدخل رئيس الوزراء السابق في وزارته عبر موظفين آخرين. لكنه وبعد أن قدم استقالته اتهم بالفساد وقد أدانته محكمة عراقية غيابياً وحُكِم عليه بالسجن. إلا أنه وبعد مغادرة نوري المالكي السلطة عاد إلى بغداد ومَثُل أمام المحكمة فبرأته من كل التهم الموجهة إليه.
محافظ البنك المركزي العراقي السابق د. سنان الشبيبي، الذي قضى عمره مسؤولاً في الأمم المتحدة متبوئاً مناصب عليا منها رئيس منظمة «مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية» المعروفة اختصاراً بـ «أونكتاد» ومقرها جنيف، حتى تقاعده عام ٢٠٠٢، هو الآخر دين بمخالفات إدارية وإهدار المال العام وحكم عليه غيابياً بالسجن لمدة سبع سنوات. لكن الشبيبي بقي في الخارج وعاد بعد مغادرة المالكي السلطة ومثل أمام المحكمة لتبرِّئه من التهم الموجهة إليه وتلغي الأحكام السابقة.
آخر المحكومين ظلماً في ظل حكومة المالكي وقد برأتهم المحكمة لاحقاً سفير العراق السابق في الولايات المتحدة، سمير الصميدعي، الذي دانته محكمة بـ «التجاوز» على المال العام عبر تقديمه مكافآت لموظفيه في وزارة الداخلية بقيمة ١٢ ألف دولار خلافاً للضوابط! والصميدعي شاعر وفنان معروف وقد عارض النظام السابق لعشرات السنين وعاد بعد سقوطه واختير عضواً في مجلس الحكم ثم وزيراً للداخلية ثم سفيراً في الأمم المتحدة ولاحقاً سفيراً في واشنطن، وهو من المعروفين بالمهارة الدبلوماسية والنزاهة والخبرة، لكن ذلك لم يشفع له بعد أن بدأ يعبِّر عن رأيه بحرية عندما تحرر من أعباء المنصب الحكومي قبل عامين.
نائب محافظ البنك المركزي السابق، الاقتصادي المعروف الدكتور مظهر محمد صالح، أتهم هو الآخر بإهدار المال العام وسجن شهرين على رغم تقدمه في السن والاحترام الكبير الذي يحظى به عراقياً ودولياً، ثم أطلق سراحه بعد أن ثبت أنه لم يرتكب أي مخالفة. وصالح معروف بالنزاهة والاستقامة والوطنية المفرطة وقد كافأه رئيس الوزراء الجديد حيدر العبادي بتعيينه مستشاراً اقتصادياً له.
رئيس هيئة دعاوى الملكية وعضو مجلس الحكم السابق، أحمد البراك، يرزح في السجن منذ عامين ونصف العام بعد إدانته بمخالفات إدارية كان يمكن ألا تؤدي به إلى السجن في أي بلد آخر في العالم حتى لو ثَبُتَ فعلاً أنه ارتكبها، ولأنه اختار أن يواجه القضاء ويبرئ نفسه من التهم الموجهة إليه والتي كان متيقناً من براءته منها، ولم يلجأ إلى الخارج هرباً من وجه «العدالة»، فإنه الآن يدفع ثمن هذه الشجاعة، ولم يستطع كل الذين تدخلوا لصالحه إيماناً منهم ببراءته، بمن فيهم رؤساء كتل برلمانية ورؤساء وزراء سابقون ونواب وقضاة، أن ينقذوه من قبضة هذه «العدالة» القاسية. البراك بريء وكثيرون من المعنيين يعرفون ذلك والمطلوب من رئيس الوزراء العبادي أن يأمر بإعادة المحاكمة كي تظهر الحقيقة للجميع.
وضع القضاء العراقي هذا لا يليق بدولة ديموقراطية، ولم يعد ممكناً الاطمئنان إلى الأحكام القضائية السابقة، بما فيها تلك التي صدرت بحق طارق الهاشمي ورافع العيساوي وغيرهما. مثل هذا القضاء لا يساعد على جذب الاستثمارات لأن العامل الأساسي لقيام اقتصاد السوق هو توافر البيئة القانونية التي تحفظ حقوق المستثمرين وباقي الأطراف من عمال وموظفين ومستهلكين ومنتجين. وهذا القضاء لا يساعد على قيام دولة عادلة يثق بها مواطنوها.
لقد تحسن وضع القضاء بعد تغير الحكومة وبدأ ينقض الأحكام التي صدرت في ظل الحقبة السابقة، وهذا تطور إيجابي من دون شك، إلا أن كثيرين من القضاة الذين سمحوا بحصول تلك «الأخطاء» ما زالوا في مواقعهم، وهذا لا يعزز الثقة في القضاء. المطلوب هو إصلاح جذري يطمْئن القضاة بأنهم في مأمن من الضغوط السياسية إن حكموا وفق ما تمليه عليهم ضمائرهم وخبرتهم المهنية. هناك إجراءات متبعة في البلدان الأخرى لحماية القضاء والقضاة من التدخلات السياسية والاجتماعية وبإمكان العراق الاستفادة منها.
حكومة الدكتور العبادي مدعوة لأن تجعل من تعزيز سلطة القضاء وثقة الناس بعدالته ونزاهته أولوية قصوى لأنها لن تستطيع أن تتقدم من دون ذلك. لن تستطيع أن تحارب الإرهاب أو الجريمة أو الفساد أو البطالة من دون أن يكون القضاء قوياً ومستقلاً وعادلاً وأن يرى الآخرون تلك القوة والاستقلالية والعدالة.
http://alhayat.com/Opinion/Writers/7862658/القضاء-العراقي-أمام-مؤثرات-السياسة!