مجلة الهدى- آذار ٢٠١٥
بعضنا يسعى دون تخطيط أو فهم عميق منه إلى خلق المزيد من الأعداء وكأن ما عندنا من أعداء ومصائب لا يكفينا، فتجده يدخل في دوامة مهاجمة الآخرين وتصديق ما يقال عنهم دون تمحيص أو تدقيق لمواقفهم الحقيقية وهل هم فعلا معنا أم ضدنا. العدالة والانصاف والمصلحة تقتضي أن يكون المرء دقيقا في أحكامه ومتريثا في إطلاقها والاعتقاد والعمل بها.
نحن لسنا بحاجة إلى المزيد من الأعداء وعلينا دائما أن نكون منصفين بغض النظر عن مواقف من نعتقد أنهم أعداء أو خصوم لنا. يجب أن نبحث عما يعزز مصالحنا ومواقفنا دائما ولا نبني مواقف ثابتة من هذا أو ذاك، فالمقياس الأول هو المصلحة، دون المساس بالمبادئ الثابتة طبعا وهناك فرق بين المواقف الثابتة والمبادئ الثابتة. المصلحة العامة لا يقررها الفرد أو المجموعة التي ينتمي إليها بل المواطنون جميعا ومن يمثلهم ومن هنا فإن تفكيرنا يجب ألا يغادر مصلحة الجميع التي تشمل الوطن والمواطنين والدولة بشكل عام وموقعها في المجتمع الإقليمي والدولي.
البعض منا يبني مواقفه الحالية على مواقف الآخرين السابقة التي يعتقدها معادية له ولمجموعته أو طائفته وينسى أن البلدان والأحزاب والجماعات تغير مواقفها بمرور الزمن وفق متغيرات الحياة والمصالح فالجمود عند مرحلة معينة أو موقف معين ليس في مصلحة أحد. وترى هؤلاء منشغلين بمهاجمة الآخر وإبراز مثالبه وأخطاره إما لأسباب عاطفية تخصهم أو مواقف خاطئة مبنية على أمزجة شخصية، أو ربما لجهل منهم بالمواقف الحقيقية لمن يعادون أو يخاصمون. وليتهم ركزوا على تطوير أنفسهم والنظر بعمق إلى مصالحهم ومصالح الجهات التي يعتقدون تمثيلها بدلا من هذا الانشغال العبثي الضار بهم وبغيرهم.
آخرون ينشغلون بمهاجمة من يختلفون معهم في الرأي وكأن على الآخرين أن يتفقوا معهم في كل شيء ولا يحق لهم أن يحملوا رأيا مختلفا. والغريب أن بعض هؤلاء يتمسكون بالأساليب نفسها حتى بعد تغيير مواقفه السابقة إلى النقيض. أي أنه يغير موقفه ويتبنى موقفا جديدا لكنه يبقي على الأساليب التي كان يستخدمها سابقا في التعامل مع الآخرين فتجده يتخذ مواقف متشنجة وصارمة ممن يختلفون معهم في الرأي.
أمر غريب أن ينتهي وضع بعضنا إلى هذا المنحدر من التشنج والمواقف الصارمة المليئة بالعداء للآخر في وقت اتسم وضعنا بالتسامح والحرية قبل مئات السنين والدليل هو هذا التنوع الهائل في القوميات والأديان والمذاهب والمدارس الفكرية والثقافية والأدبية. التنوع الذي كانت مجتمعاتنا تتمتع به إلى عهد قريب لم يأتِ دون تسامح وقبول بالآخر وقدرة على التعايش. بل لو تفحصنا مجتمعاتنا بدقة لرأينا أننا كنا نستقبل اللاجئين من الدول الأخرى كي يستقروا بيننا ويحتفظوا بمزاياهم وثقافاتهم وأديانهم ومذاهبهم الأصلية وقد قدم هؤلاء لمجتمعاتنا خدمات جليلة على مر السنين استفدنا منها أيما استفادة.
والمشكلة الأخرى التي يواجهها بعضنا هي أنهم مستعدون لتصديق أي شيء يجدونه في طريقهم إن كان يسيء إلى من يعتقدونهم خصوما لهم دون تمحيص أو تحقيق وهذا غاية في ظلم النفس أولا والآخر ثانيا. فحتى إن ثبت لنا سوء من نعتقد أنهم خصوم لنا فإن المنطق والانصاف يحتم علينا ألا نتعسف في إطلاق الاحكام أو اعتبار كل مواقفهم خاطئة بناء على مواقف مسبقة منهم. القرآن الكريم يأمر بالعدل في كل الأحوال وتحت كل الظروف (لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا. اعدلوا هو أقرب للتقوى). ومن هنا فإن الإنصاف والعدل يتطلبان منا التمحيص والتحقق من الأحداث والمواقف فهذا مطلوب سواء كان من أجل الخصوم أو الأصدقاء. فما المانع أن يكون الخصوم مصيبين ومنصفين أو يكون الأصدقاء مخطئين أو مجحفين بحق الآخرين؟