مرة أخرى، تعود الأنبار إلى صدارة الأحداث في العراق، ويتركز الاهتمام هذه المرة على جسر «بزيبز» على نهر الفرات، الذي يعبره آلاف الأنباريين يومياً باتجاه بغداد والمحافظات العراقية الأخرى، هرباً من إرهاب «تنظيم الدولة».
فبعد الاحتفال بانتصارات الجيش والقوى الأمنية، مدعومة بالمتطوّعين من أبناء العشائر والحشد الشعبي، في محافظة صلاح الدين، وإخراج الجماعات المسلّحة من مدينة تكريت، فوجئ العراقيون بتقدّم مفاجئ لتنظيم الدولة (داعش) في الأنبار، وسيطرته على أجزاء من مدينة الرمادي التي كانت عصية عليه طوال الفترة الماضية، باستثناء مدينة الفلوجة الواقعة تحت سيطرة التنظيم منذ عام ونصف العام. وقد تزامن تقدّم التنظيم مع انسحاب جزئي، ربما كان مؤقتاً، للجيش والحشد الشعبي من المنطقة.
المحزن في كل هذه المسألة، أن أهالي الأنبار الهاربين من جحيم الإرهاب فوجئوا بمطالبة السلطات المحلية في بغداد وبابل، بأن يأتوا بـ «كفيل» كي يدخلوا إلى المحافظات الأخرى، ثم خُفف هذا الشرط وأعفي منه النساء والأطفال والمسنون، بينما بقي سائداً على الشباب من ١٨-٥٠ عاماً، خشية أن يكون بينهم من أعضاء الجماعات المسلّحة التي تسعى إلى زعزعة الاستقرار في العاصمة ومحافظات الجنوب.
وأغرب موقف جاء من حكومة محافظة بابل المحلية، التي طالبت «الشباب» بأن ينخرطوا في الدفاع عن مناطقهم ضد تنظيم الدولة! بينما تصرّف الوقفان السني والشيعي بطريقة تنمّ عن المسؤولية الإنسانية الغائبة عند الحكومات المحلية، إذ فتحا من دون تردد كل المساجد ودور العبادة لإيواء اللاجئين.
وعلى رغم أن هناك مخاوف مشروعة من أن يكون بين النازحين متسللون أو «مندسون» من أعضاء أو مناصري «تنظيم الدولة»، الذين يمكن أن يتسببوا في زعزعة استقرار المحافظات الأخرى، إلا أن الغالبية العظمى من النازحين، من نساء ورجال وأطفال وشباب وشيوخ، هم مدنيون هربوا من مناطقهم خوفاً على أنفسهم وعائلاتهم من إرهاب «داعش»، لذلك فإن من الظلم والإجحاف بحقّهم أن يُطالَبوا بكفيل ليدخلوا مدناً أخرى في بلدهم.
يجب على الدولة ألا تتنازل عن وظيفتها كراعية لجميع مواطنيها من دون شروط ومهما كانت المخاوف الأمنية، حتى وإن كان بعضها مشروعاً، لكن الحل ليس في التمييز العشوائي بين المواطنين على أساس المنطقة التي جاؤوا منها، ومن دون أن يكون هناك أي دليل يبرر هذا التعامل الاستثنائي.
مثل هذه الإجراءات لا يعزز الوحدة الوطنية بل على العكس، فإن هؤلاء النازحين قد يشعرون أن عليهم التعايش مع تنظيم الدولة، مهما كان ذلك صعباً ومحفوفاً بالأخطار، إن كانت حكومتهم تشترط عليهم شروطاً غير معقولة تناقض مبدأ المواطنة، شروطاً قد لا يكونون قادرين على الإيفاء بها، من أجل أن تحتضنهم وتحميهم من جماعة إرهابية متخلّفة لا تعرف الرحمة. حماية المواطنين من أعمال العنف، واجب أساسي من واجبات الدولة بل هو أحد مبررات وجودها، فإن عجزت عنه فإنها عندئذ تجيز لمواطنيها بأن يتّخذوا الإجراءات الكفيلة بحماية أنفسهم، بما في ذلك حمل السلاح وتجاهل القوانين المرعية، واستخدام العنف الذي يفترض أن تحتكره أجهزة الدولة العسكرية.
ينسى بعض المسؤولين العراقيين، من قليلي الخبرة وحديثي العهد في العمل السياسي والحكومي، أن الدول لا تشترط «كفيلاً» على اللاجئين الأجانب، فكيف بأبنائها، بل تحتضنهم وتقدّم لهم التسهيلات الأساسية كالمخيمات والطعام والدواء والحماية، وقد خبر العراقيون هذه التجارب خلال السنين المنصرمة، وعليهم أن يعرفوا أن السعي إلى تحقيق «مكاسب» أمنية وقتية عبر التمييز بين المواطنين، سيكون على حساب الأمن والاستقرار الطويل الأمد في العراق كله، وأن هذه الإجراءات غير العادلة لن تخدم المناطق التي يظنون أنهم يخدمونها، بل ستزيد من معاناة أهلها مستقبلاً. الأزمات عادةً، تجعل الناس يتضامنون ويتلاحمون، وهذا هو المطلوب حالياً في العراق.
لقد ظلت بريطانيا تعاني من إرهاب الجيش الجمهوري الإرلندي لعشرات السنين، لكنها لم تتنازل عن ثوابتها، ولم تفرض أي قيود على مواطني إرلندا الجنوبية، وهم مواطنو دولة أخرى وليسوا بريطانيين، بل ظلت تميزهم عن مواطني دول العالم جميعاً، فكانوا يدخلون بريطانيا من دون تأشيرة، ويعملون فيها من دون ترخيص، ويتنقلون فيها بحرية لا تتوافر إلا للبريطانيين، ويحصلون على الحقوق المتوافرة للبريطانيين من ضمان اجتماعي وصحي وتعليم وخدمات مدنية.
بهذا التعامل الراقي، تمكّن البريطانيون من عزل الجيش الجمهوري الإرلندي عن جمهوره الإرلندي، حتى تمكنوا في النهاية من تحقيق السلام عبر اتفاقية الجمعة العظيمة مع إرلندا الجنوبية، في عهد رئيس الوزراء الأسبق جون ميجور، ثم التفاوض المباشر مع الجناح السياسي للجيش الجمهوري الإرلندي (شن فين)، في عهد توني بلير الذي التقى بزعيمه، جيري آدمز، وصافحه على رغم اعتراض كثر من مواطنين وسياسيين.
بإمكان العراقيين أن يتعلموا من التجربة البريطانية، ويحتضنوا أهالي الأنبار والمناطق المنكوبة جميعاً من دون شروط أو تحفّظ، ويتفانوا في إيوائهم ومساعدتهم، على رغم ما ينطوي على ذلك من أخطار أمنية، والتي يجب التعامل معها بموضوعية وعقلانية وتركها للخبراء الأمنيين. الشكّ والتوجس من أهالي هذه المناطق من دون دليل، سيفاقمان مشكلة العراق لأنهما سيتركان جروحاً عميقة في نفوس أبنائها، ويجعلهم يشعرون أكثر من أي وقت مضى أن هناك ازدواجية في التعامل عند الحكومة العراقية، وأنهم لن يُعاملوا يوماً كعراقيين كاملي الأهلية حتى عندما يصبحون لاجئين محتاجين إلى المساعدة، وأن الأفضل لهم هو الانعزال في إقليم خاص بهم، أو أسوأ من ذلك، أن يتحالفوا مع «تنظيم الدولة» أو اللجوء إلى العنف وحمل السلاح ضد الدولة.
ما زال هناك متّسع من الوقت لأن يتدخل رئيس الوزراء حيدر العبادي، ونائبه صالح المطلك، ورئيس مجلس النواب سليم الجبوري، لإزالة أي تعامل استثنائي مع أهالي هذه المناطق، فالمطلوب فوراً هو احتضانهم والتعامل معهم باحترام يبرهن لهم ولغيرهم بأن العراق بلد واحد، وأن الحكومة لا تميز بين المواطنين. مثل هذا التعامل سيكون الخطوة الأولى لحلّ مشكلة العراق.
http://alhayat.com/Opinion/Writers/8766106/التخوّف-من-النازحين-يفاقم-مشكلة-العراق