الحياة- السابع من أيار 2015
ليس غريباً في تاريخ العراق القديم والمتأخر أن يبرز رجال يجيدون معارف وفنوناً. وفي القرن الماضي برز الأخوان محمد رضا ومحمد باقر الشبيبي، اللذان تميزا في الأدب والفقه والسياسة، بل إن محمد رضا تولى مناصب وزارية مرات عدة في العهد الملكي. كما برز في الفترة نفسها السيد محمد سعيد الحبوبي الذي عُرف شاعراً مبدعاً أكثر منه فقيهاً لما تمتع به من حس شعري رفيع. وفي العصور المتأخرة برز مصطفى جمال الدين كشاعر عروبي علماني على رغم انتمائه إلى الحوزة الدينية، وكانت اهتماماته ومؤلفاته أدبية وسياسية. عدة ويجمَعون بين الزعامتين الدينية والسياسية والسعة المعرفية والإبداع الأدبي. وإذا ما تجنبنا الأخوين الشريفين، الرضي والمرتضى، باعتبارهما عاشا في العصر العباسي، فهناك آخرون لم يقلوا أهمية عنهما بل ربما فاقوهما في مزايا كثيرة.
إلا أن العلامة محمد بحر العلوم الذي توفي أخيراً عن عمر ناهز ٨٨ عاماً، برع في المجالات أعلاه وغيرها في آن. كشاعر، له ديوانان هما «حصاد الغربة» و «حصاد الوطن»، وفي الفقه له مؤلفات عدة، وفي التأريخ الإسلامي له سلسلة من الكتب كان أبرزها «بين يدي الرسول الأعظم» في ثلاثة أجزاء و «ضحايا العقيدة» ومجموعة كتب حول سيرة الفدائيين في الإسلام. وفي القانون ألف كتاباً عام 1964 بعنوان «أضواء على قانون الأحوال الشخصية العراقي وفق المذاهب الخمسة»، وكان منذ ذلك الوقت يسعى إلى التقريب بين المسلمين من خلال إبراز المشتركات بينهم. أما في السياسة فكان من القامات البارزة منذ السبعينات ومن أهم الشخصيات المعارضة للنظام السابق.
في ١٩٩٢ انتخب السيد بحر العلوم، إلى جانب السيدين مسعود البارزاني وحسن النقيب، عضواً في مجلس الرئاسة الذي شكلته المعارضة العراقية كحكومة بديلة للنظام. وقد استُقبِل في معظم الدول الإقليمية والغربية كزعيم سياسي عراقي ولم ينظر إليه كرجل دين شيعي فحسب على رغم ارتدائه الزي الديني، والسبب هو حنكته السياسية ووسطيته وعروبيته. كان يُعلي القيم الإنسانية والوطنية التي وجدها منسجمة كلياً مع معتقداته الدينية.
في المحيط العربي كان السيد بحر العلوم يُستقبَل كشخصية عربية مرموقة، ساعده في ذلك فهمه العميق للقضايا العربية كونه شاعراً وفقيهاً ومؤرخاً إسلامياً بارزاً أكمل دراسة الدكتوراه في القاهرة في السبعينات وعمل قاضياً للأحوال الشخصية في الكويت، بعدما تعذرت عودته إلى العراق بسبب معارضته للحكم القائم. غادر الكويت إلى لندن عام ١٩٨١ ليؤسس هناك مع صديقه السيد مهدي الحكيم مركزاً ثقافياً إسلامياً استقطب العراقيين والعرب والأجانب على حد سواء بسبب نشاطاته النوعية، مـن أمسيـات أدبية إلى محاضراتٍ دينية إلى ندواتٍ واجتماعاتٍ سياسية، إلى حلقاتِ تقريب بين الأديان. وبعد اغتيال السيد الحكيم في السودان مطلع ١٩٨٨، اضطلع بحر العلوم بالمسؤولية وحده وكان متميزاً بكل المقاييس.
كان دائماً يردد أنه «عربي الهوى»، وكانت تلك حقيقة متجلية في أدبه وسلوكه الاجتماعي وعلاقاته الطيبة في الأوساط العربية، الأدبية والسياسية، لمسها كل من عرفه وتعامل معه. كان دائم البحث عن المشتركات مع الآخرين، وليس مستغرباً أن تجد في مجلسه المسيحيين والعلمانيين والقوميين إلى جانب المتدينين من سنة وشيعة، عراقيين وعرب وأجانب. وعندما أراد أن يعبِّر عن موقف سياسي، كان يختار صحيفة «الحياة» ليكتب فيها وقد فعل ذلك للتعبير عن رأيه المنتقد للتدخل العسكري الأميركي في العراق عام ٢٠٠٣، إذ كان يؤمن بأن إسقاط النظام يمكن أن يحصل بطرق أقل كلفة.
عاد بحر العلوم إلى العراق بعد سقوط النظام بشهر تقريباً واستقبل استقبال الزعماء من البصرة إلى بغداد، ثم انخرط في العمل السياسي وساهم في تشكيل مجلس الحكم وانتخب رئيساً له مرتين، إذ كان أول رئيس له باعتباره الأكبر سناً، ثم أصبح رئيسه الثامن كاستحقاق سياسي. وخلال معرفتي به، التي دامت ثلاثة عقود، وعملي معه في مجلس الحكم عامي ٢٠٠٣ و٢٠٠٤، وجدتُه صادقاً وصريحاً وأنيساً، ومع مرونته الفائقة، كان شديد التمسك بالمبادئ. فقد انسحب من المباحثات مع الأميركيين حول قانون إدارة الدولة في آذار (مارس) ٢٠٠٤ ولم يعُد إلى طاولة المفاوضات إلا بعد تدخل قادة عراقيين وأميركيين.
وعندما مارس الحاكم الأميركي، بول بريمر، ضغوطاً على أعضاء مجلس الحكم، إذ تعرض بعضهم كأحمد الجلبي لمضايقات تضمنت إصدار مذكرة باعتقاله، أعلن بحر العلوم استقالته من مجلس الحكم احتجاجاً، ولم يتراجع عنها إلا عندما تراجع الأميركيون. وأثناء ترؤسه الوفد العراقي إلى الصين واليابان عام ٢٠٠٤، وكنت عضواً فيه، أصر على أن تعكس تشكيلة الوفد تلاوين المجتمع العراقي السياسية والدينية والقومية، وعندما استاء عضو الوفد الكردي من موقف ما وتأخر عن الموعد، كاد بحر العلوم يلغي اللقاء المقرر مع رئيس الوزراء الياباني، كيوزومي، قائلاً أنه لن يعقد بغياب ممثل الكرد حتى عدل الأخير عن قراره.
اتصف الدكتور بحر العلوم بالرصانة والموضوعية في أبحاثه والوسطية في سياساته والإنسانية والتواضع الجم في تعامله مع الناس، فلم يهتم يوماً لقضية طائفية أو شخصية بل كان همه وطنياً وإنسانياً، وكان صادقاً في تعامله مع الجميع، ومع تلك الصراحة لاقت أفكاره وآراؤه وتعامله الإنساني مقبولية واسعة بين العراقيين. وعلى رغم أنه غادر العمل السياسي قبل عشر سنوات وعاد إلى مدينته النجف، ظل مؤثراً في الوسط السياسي وحاضراً في معظم اللقاءات المهمة.
وتتجلى أخلاقه الرفيعة في سلوك أبنائه الثلاثة، فعلى رغم اختلاف مسالكهم المهنية (نجله الأكبر، وزير النفط السابق والنائب الحالي الدكتور إبراهيم بحر العلوم، ونجله الثاني، محمد علي، رجل دين وعميد معهد العلمين، والثالث، محمد حسين، ديبلوماسي وسفير)، فقد ورثوا عنه التواضع والوسطية والانخراط في خدمة الآخرين.
رحيل السيد بحر العلوم هو حقاً نهاية عصر، فقد كان بحق آخر الزعماء الموسوعيين، ولا أحسب أن أحداً يمكنه بلوغ المكانة التي بلغها في الزعامة والأدب والفقه والثقافة واحترام الناس من كل المشارب والتوجهات. لقد كان شخصية فريدة صنعتها نشأته العائلية المتميزة وظروف العراق الصعبة خلال قرن زاخر بالأحداث الجسام.
http://alhayat.com/Opinion/Writers/9040434/%D8%B1%D8%AD%D9%8A%D9%84-%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%A8%D8%AD%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D9%88%D9%85-%D9%86%D9%87%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D8%B9%D8%B5%D8%B1